القديس والسلطان

محمود الزيباوي
السبت   2017/10/21
فرنسيس يجادل السلطان والعلماء المسلمين، تفصيل من لوحة تعود للنصف الثاني من القرن الـ13
في مناسبة مرور 800 عام على اللقاء الذي جمع بين القديس فرنسيس الأسيزي، والسلطان الكامل محمد الأيوبي، في دمياط، نظمت الكنيسة الكاثوليكية في مصر احتفالية كبيرة تهدف إلى إلقاء الضوء على هذا الحدث التاريخي الذي شكّل "بذرة لتقبّل الحوار بين الأديان"، كما قال  سفير إيطاليا الجديد جيان باولو كانتيني.


قصة هذا اللقاء معروفة في العالم الكاثوليكي، وقد صوّرها العديد من كبار الرسامين الأوروبيين على مدى قرون، قبل أن تدخل عالم السينما للمرة الأولى في العام 1911. بحسب الرواية الشائعة، ولد فرنسيس وترعرع في مدينة أسيزي، وعمل مع والده في التجارة، وفي الثامنة عشرة من عمره، اشترك في الحرب على مدينة بيروجة، وتعرّض للأسر، وعند خروجه من السجن، لازم داره زمناً، وأحسّ بتحوّل جذري في أعماقه، وشرع في زيارة الكنائس الصغيرة المنتشرة في ريف أسيزي، وخاطبه المسيح بينما كان يصلي في كنيسة القديس دميان، وقال له: "اذهب وأصلح بيتي الذي كما تراه يتهدّم". فتحوّل إلى عامل بناء، وشرع في ترميم الكنائس، ونبذه والده، فهجر بيته، وتخلّى عن كل ما يملكه، وأدرك أن المسيح دعاه إلى إصلاح الكنيسة الجامعة، وانه مُرسل إلى الناس ليعلن البشارة في الفقر والفرح، مثل تلاميذ المسيح، وكوّن جماعة صغيرة تضاعف عدد أعضائها بسرعة.

هكذا أنشأ فرنسيس الأسيزي رهبانية جديدة تجمع بين التأمل السامي والحياة الإنجيلية الأكثر تواضعاً وفقراً، وسعى مع اخوته إلى تجديد الكنيسة من الداخل، وأبحر مع بعض رفاقه إلى مصر في العام 1219، أيام الحملة الصليبية الخامسة، وتسلّل خفية إلى معسكر المسلمين مع واحد من رفاقه، غير مبال بحياته، ووقع في الأسر. وكان له مع سلطان مصر الكامل محمد الأيوبي لقاء طويل في دمياط، عاد بعده سالماً إلى موطنه، وتخلّى عن رئاسة الرهبنة التي أنشأها، وواصل كفاحه، مشدداً على الفقر والتواضع حتى وفاته في خريف 1226. وسارعت الكنيسة إلى إعلان قداسته في صيف 1228، وبات اسمه مرادفاً لنبذ العنف والدعوة إلى الحب والسلام.

في استعادتهم لمسيرة هذا القديس الذي عاش في زمن الحملات الصليبية، نسج الرواة حول لقاء القديس بسلطان مصر، أكثر من رواية، وتبدّل معنى هذا اللقاء بين رواية وأخرى، وتحوّل في القرن العشرين إلى شهادة تختزل "الحوار الإسلامي المسيحي في بداياته"، كما أكّد مؤخراً الأب ميلاد شحاتة رئيس "المركز الثقافي الفرنسيسكاني للدارسات القبطية" عند إعلان انطلاق الاحتفالية المقامة بمناسبة مرور ثمانية قرون على هذا اللقاء.

وأقدم النصوص التي تتحدث عن هذا اللقاء، تعود إلى الفترة التي سبقت إعلان قداسة فرنسيس الأسيزي، وتقول إن الراهب ذهب مع رفيقه الأخبياترو إلى "الأراضي المقدسة" لنيل إكليل الاستشهاد ونشر الإيمان "بالثالوث الأقدس" وسط المسلمين، وفشلا في هذه المهمة المزدوجة. في العام 1920، يشير المؤرخ جاك دو فيتري إلى هذه الواقعة من دون أن يذكر فرنسيس بالإسم، وبعد سنوات، بين 1923 و1925، عاد وتوقف عندها، وذكر اسم فرنسيس، مؤكداً بأن المسلمين باتوا يصغون إلى الرهبان المبشرين بالمسيح بعد هذه الواقعة. بعد جاك دو فيتري، أشار مؤرخ آخر مجهول الاسم، إلى هذا اللقاء، من دون أن يذكر اسم فرنسيس في عرضه لحوليات الحملة الخامسة، وامتدح سلطان مصر الذي أصغى إلى راهبَين لجآ إليه، ووصفه بالرئيس الحكيم.

في السيرة الرسمية التي وُلدت إثر إعلان قداسة فرنسيس في العام 1928، نقع على الرواية المفصلة لهذا اللقاء، وما جرى فيه من حوار بين الراهب والسلطان الأيوبي. بحسب هذه الرواية، لم يكن فرنسيس معادياً للحملة الصليبية، وان كان من دعاة السلام والفقر والحب. وقد دعا السلطان إلى اعتناق المسيحية ونشرها أمام حشد من كبار العلماء، فردّ الملك عليه بلغة الإنجيل، وقال له: دينكم يقول لكم بأن لا تردّوا الشرّ بالشر، وان تتركوا رداءكم لمن أراد أن يأخذ منكم ثوبكم، لذا يتوجب عليكم ألا تغزوا أراضينا. فأجاب فرنسيس: يبدو أنك لم تطلع على الانجيل بشكل كامل، واستشهد بالآية القائلة: "وإن أعثرتك عينك فاقلعها"، وأضاف مفسّراً: علينا أن نطيح بأي إنسان يبعدنا عن إيماننا، حتى لو كان هذا الإنسان بمثابة عيوننا، ولو آمنتم بالمسيح المخلّص، سيحبكم المسيحيون كما يحبون أنفسهم.

تابع فرنسيس هذا الخطاب الدفاعي، وتحدّى السلطان، وقال له: "إذا كنت ترفض الإيمان المسيحيّ، أطلب منك أن تأمر بأن توقد ناراً حامية، ندخلها أنا ورجال دينك لترى من الذي ستحرقه هذه النيران، وبذلك تستطيع أن تحكم أي الدينين أصح وأقدس وأبقى". فأجابه السلطان بأن أحداً من رجال دينه لن يقبل بهذا العرض. وعاد فرنسيس ورفيقه بأمان إلى موطنهما بعدما فشل في إقناع السلطان باعتناق المسيحية، ومن دون الفوز بإكليل الشهادة. وتكررت قصة مواجهته للسلطان والعلماء في روايات مسيحية عديدة، استعادت هذا اللقاء، مع اختلاف في التفاصيل. غير أننا لا نجد أي أثر لهذه القصة في المصادر الإسلامية إلا في إشارة عابرة وجدها المستعرب لويس ماسينيون في كتاب "الكواكب السيارة". في هذا الكتاب، يشير ابن الزيات، في النبذة الخاصة بالعالم المحدث الصوفي، فخر الدين الفارسي، إلى "القصة المشهورة" التي عرفها هذا الصوفي مع الملك العادل و"الراهب"، من دون أن يذكر اسم هذا الراهب، ما يوحي بأن فخر الدين الفارسي كان واحداً من العلماء الذين شاركوا في هذا اللقاء. 

في "عصر الأنوار"، استعاد المفكّر الفرنسي فولتير هذا الخطاب الدفاعي، وبدا له فرنسيس رجل دين متعصّباً، يخاطب حاكماً مثقفاً ومتسامحاً. وفي الواقع، لم يأخذ هذا اللقاء بُعداً جديداً إلا في القرن العشرين، وتحوّل بعد سلسلة طويلة من الدراسات إلى حدث استثنائي شكّل "بذرة لتقبل الحوار بين الأديان"، كما قال مؤخراً السفير الإيطالي لدى مصر. وبدأ هذا التحوّل في العام 1916، يوم عاد الأب الفرنسيسكاني، غوينولي جوسّيه، وذكر هذه الواقعة في مداخلة له في ندوة "الأديان والثقافات في سبيل السلام"، وربط للمرّة الأولى، بين تعليم من التعاليم التي خرج بها فرنسيس من هذه التجربة المثيرة. ويقول نصّ هذا التعليم: "بإمكان الإخوة الذين يذهبون إلى المسلمين أن يعيشوا روحيّاً، بينهم، بطريقتين: إحداهما هي الامتناع عن أيّ جدال أو نقاش، والخضوع لكلّ خليقة بشرية، من أجل الله، والاعتراف بأنّهم مسيحيّون. والطريقة الأخرى هي، عندما يبدو أن ذلك يُرضي الرب، إعلانهم كلمة الله"، أي التبشير بالمسيحية.

هكذا برزت في العام 1916، الطريقة الأولى التي صاغها فرنسيس الأسيزي العام 1921، في الفصل السادس عشر من قانون الرهبانية الفرنسيسيّة الأول، وعاد وكرّرها العام 1923 في قانون الرهبانية الثاني مع تعديل طفيف، معلناً بذلك بداية عهد جديد من العلاقات بين المسيحية والإسلام، بحسب الدراسات المتعاقبة التي تناولت لقاء القديس بالسلطان. ويمكن القول إن كل هذه الدراسات تستند بشكل أساسي إلى هذه الطريقة التي كان فرنسيس الأسيزي أول من دعا إليها.

هكذا، خرج اللقاء بين القديس والسلطان من دائرة الخطب الدفاعية المغلقة، وأضحى في القرن العشرين حواراً منفتحاً يدعو إلى قبول التعددية والاختلاف. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تنجح الطريقة التي دعا إليها فرنسيس اليوم، بعدما عاد الشرق إلى ظلمة القرون الوسطى، وغرق من جديد في الحروب الدينية التي لا تنتهي؟

 

برادفورد ديلمان وبيدروأرمانداريز في مشهد لقاء القديس بالسلطان
من فيلم "فرنسيس الأسيزي"، إخراج مايكل كورتيز، 1960.