ستيفان زفايغ... وداع أوروبا

رائد الرافعي
الأربعاء   2016/07/13
زفايغ عاش مرحلة "السقوط من الجنة" وهو ما رواه في آخر كتاباته
تعيش أوروبا اليوم عودة إلى النزعات القومية التي طبعت النصف الأول من القرن الماضي، فالحلم الوحدوي الذي أسس لثقافة أوروبية عابرة للحدود الوطنية، يبدو اليوم مضعضعاً. العودة، في ظلّ الأجواء الحالية، إلى ذروة الإنشقاق الأوروبي أي فترة الحرب العالمية الثانية هو أمر متداول حالياً، كعملية إعادة تفكير بالسبب الجوهري الذي دفع الأوروبيين إلى التوحّد وهو ضمان عدم تكرار حرب جديدة مدمّرة بين "الأشقّاء".

فيلم جديد بدأ عرضه في أوروبا، يقترح النظر إلى الإنهيار الذي شهدته القارة الأوروبية في نهاية الثلاثينيات من خلال تسليط الضوء على شخصية أدبية أساسية، ستيفان زفايغ، وهو الذي آمن بشدّة بأوروبا كمنبع لحضارة إنسانية حديثة ليشهد في سنين حياته الأخيرة على تهاوي تلك الرؤية المتفائلة مع صعود الفاشية والنازية. 


"ستيفان زفايغ، وداعاً أوروبا" (2016)، للمخرجة الألمانية ماريا شرادر، يروي المراحل الأخيرة من حياة الكاتب النمساوي الشهير الذي عُرف برواياته القصيرة (مثل: 24 ساعة في حياة امرأة) والسير الذاتية (ماري أنطوانيت). زفايغ الذي عاش في فيينا في عزّها وكان صديقاً لفرويد، اضطر إلى الهروب إلى بريطانيا بدايةً لينجو من النازيين الذين منعوا كتبه وأحرقوها بسبب أصوله اليهودية. كمناهض للعنف والحرب ومؤمن بالمبادئ الأممية، لم يستطع الكاتب أن يتقبّل حياة المنفى التي أجبرته على الإنتقال إلى الولايات المتحدة، ثم إلى بتروبوليس (وهي مقاطعة برازيلية تعجّ بالجاليات الألمانية). وقد عاش مرحلة وكأنها سقوط من الجنة وهو ما رواه في آخر كتاباته، "عالم البارحة" (1941)، وهو عبارة عن مذكرات يروي فيها تاريخ أوروبا الحديث كما عايشه وبالإتكّال فقط كما يقول على ذاكرته إذ أنّه كان بعيداً حينها عن أية مراجع قد تفيده في هذا المجال.

يتحدث زفايغ عن المآسي التي اختبرها جيله من حروب وثورات والتي تبدو بفظاعتها وكمّها وكأنها تساوي ما عايشته الأجيال السابقة على مدى حقبات عديدة. يتحسّر على مرحلة الحرية والإنفتاح التي عرفها في شبابه وعلى مدينته فيينا والتي كانت عند ولادته في العام 1881 عاصمة متألقة للإمبراطورية الهابسبورغية، فأصبحت مدينة هامشية تابعة لألمانيا قبل أن يتركها. ويعكس التناقض بين الإبداعات والتطورات البشرية في النصف الأول من القرن العشرين والتي يصفها بالمعجزات الإلهية (إختراع الطائرة وأدوية متطورة وغيرها) والتصرفات الإنسانية "الشيطانية" (الفاشية في إيطالية، النازية في ألمانيا والبولشيفية في روسية). وينتهي باتهام صعود القوميات العصبية على أنّه أساس الشر المستشري في أوروبا قائلاً في مقدمة كتابه أنّ "جرح الجروح هو القومية التي سممت زهرة ثقافتنا الأوروبية". 
زفايغ الرافض للقوميات، كان معادياً أيضاً للصهيونية. وهو رغم علاقته "الدافئة" بالأب الروحي للصهيونية تيودور هرتزل في إحدى المراحل، وصف كتاب هذا الأخير حول ضرورة إنشاء وطن قومي لليهود على أنّه "نص متحجّر وكلام فارغ".

أزمة زفايغ الحادة جعلته يُقدم على الإنتحار هو وزوجته العام 1942 بعدما فقد كل إيمانه بإنسانية استطاعت أن تتخيل فظاعة المحرقة اليهودية. إنتحار زفايغ أثار ردود أفعال قوية. فالكاتب الألماني المعروف توماس مان، مثلاً، وصف عملية الإنتحار بالجبن وكتب أنّ زفايغ بقتله نفسه منح النازيين الشعور بالإنتصار. ورغم أن نظرة زفايغ السوداوية في تلك الفترة كانت واضحة، إلّا أن بعض المحللين ظلّوا يتساءلون حول الأسباب المباشرة التي دفعت الكاتب النمساوي إلى الإنتحار، في وقت كان يحظى بنجاح كبير من قبل جماهير القراء، وكان قد أنهى أعمالا أدبية مهمة، كما كان قد تزوّج من امرأة فاتنة تصغره سناً بثلاثين سنة واختار طوعاً ترك نيويورك للإستقرار في البرازيل التي وصفها بأنها مصدر إلهام.

وفي رسالة كتبها زفايغ قبل انتحاره يقول إنّه فضل أن ينهي حياته "في الوقت المناسب، منتصباً، كرجل اعتبر العمل الثقافي دائماً على أنّه أنقى أنواع السعادة والحرية الفردية وهي أثمن المقتنيات في العالم".