بريانتي مندوزا لـ"المدن": طفولتي قداديس كاثوليكية وأفلام حركة

هوفيك حبشيان
الإثنين   2016/05/30
مندوزا اكتشف السينما الكبيرة بعدما صار ينجز الأفلام
بريانتي مندوزا سينمائي "مستشرس" لا يتوقف عن التصوير. ينجز فيلماً كلّ سنة تقريباً. لا عجب أن تلتقيه في برلين ثم كانّ فالبندقية في فترة قصيرة. المهرجانات الدولية تغازله ولجان التحكيم تنوّه بعمله، ومن أهم ما ناله هو جائزة الإخراج في "كانّ" العام 2009 عن "كيناتاي". لديه دائماً ما ينبشه ويقوله في أحوال بلاده الفيليبين ذات الثقافات والجماعات والأديان المعتدّدة. بعقد من الزمن، بات هذا الخمسيني الممثل الأكثر تعبيراً عن تيار سينمائي وُلد من الحاجة وتطوّر رغم الامكانات البدائية. هذا الذي تربى في بيئة كاثوليكية صارمة، وضع الفرد في قلب اهتماماته، فعاد إلى الدورة الأخيرة من مهرجان "كانّ" المنتهي للتو، بفيلم "ما روزا"، الذي تجري حوادثه وسط بيوت الصفيح في مانيللا. بلغته الممعنة في الواقعية وأسلوبه المباشر، يروي جديد الفيليبيني اعتقال زوجين بسبب بيع الممنوعات. فالشرطة الفاسدة تطالبهما بمبلغ مالي مقابل الإفراج عنهما. نالت جاسلين خوسه جائزة التمثيل في "كانّ"، منتزعة إياها من يد صونيا براغا - أقوى المرشحات في تلك الفئة. مناسبة للعودة إلى بدايات مندوزا والتجوّل في مسيرته من خلال الحوار الآتي مع "المدن".


* هل تذكر مشاهداتكَ الأولى حين كنتَ طفلاً؟
- كانت تقتصر على أفلام الحركة. في الطفولة، تكون فضولياً. تشاهد أفلام الـ"سوبر هيرو"، فتعود إلى المنزل وتسعى إلى تقليدهم. أتذكّر أنني تعرّضتُ لأكثر من حادث وأنا أحاول التشبّه فيهم. كنّا نرى أفعالهم، نعتقدها سهلة، فينتهي بك الأمر بحبل يلفّك ولا تعرف كيف تفكّه. الفارق كبير بين ما تراه على الشاشة وما تستطيع تنفيذه في الواقع. الأولاد عندما يرون هذه الأفلام يعتقدونها حقيقية قابلة للتنفيذ… 


* كم كان عمركَ آنذاك؟
- كنت في السابعة أو الثامنة. 


* هل عشتَ طفولتكَ في مانيللا؟
- لا، ولدت في الريف، في سان فرناندو. مسقطي معروف بالمطبخ الجيد. إذا سألتَ أي فيليبيني عن الأكل اللذيذ، فسيقول لك اذهب إلى سان فرناندو. لم أعرف المدينة في طفولتي. عشت الحياة التقليدية لسكان القرية. المدينة كانت مكتظة سكانياً وفيها حشدٌ من الأطفال. لم يكن لي الكثير من الرفاق ألعب وإياهم، فاكتفيتُ باللعب بمفردي داخل المنزل. في عطلة نهاية الأسبوع، كنتُ أصطحب أهلي لمشاهدة فيلم، ثم كوني من عائلة كاثوليكية كنّا نذهب إلى القداس. خوَّلنا نظام الفرجة في القرية الدخول إلى الصالة صباحاً ومغادرتها ليلاً. هكذا تمكّنتُ من مشاهدة الفيلم ذاته مرات، وكان بعض الناس يبيعون المأكولات داخل الصالة…


* شاهدنا بعضاً من هذا في فيلمك "خدمة". هل كان نوعاً من "سينما باراديزو" بالنسبة إليك؟
- (ضحك). نعم! عادةً، لم أكن أبقى في الصالات ساعات طويلة، لكني كنتُ أشاهد فيلمين دفعة واحدة. انتظرتُ تلك اللحظة على أحرّ من الجمر. كانت المدرسة تتواصل من الإثنين إلى الجمعة، وفي أيام العطل اقتصرت حياتنا على ثلاثة أشياء: اللعب في المنزل، القدّاس، وارتياد الصالات. لم يكن لدينا سوبرماركت. كانت هناك أسواق شعبية طافحة بالحياة. كنتُ عندما أذهب إليها برفقة أمي، أنتظرها في إحدى الزوايا. كان يصعب عليّ تحمّل رائحة السمك واللحم. بقيتُ أقف هناك وأقرأ القصص المتسلسلة. 


* هل كنت متعلقاً بأمك؟
- للأسف، ماتت أمي قبل أن أصبح مخرجاً، وكنتُ بدأتُ التورّط في صناعة الأفلام، إذ كنتُ أعمل مصمّماً للديكورات ومديراً فنياً. في صغري، عملت أمي بالأشغال اليدوية. معظم الأفلام التي شاهدناها كانت أفلام حركة فيليبينية. أفلام رديئة لكنها تثير الضحك. لدينا نسخة فيليبينية لجيمس بوند يُدعى طوني فيرير. وكانت ثمة أيضاً نسخة لبروس لي. كان يشبهه ويقلّد تمثيله.


* في أيّ عمر بدأتَ تكتشف السينما الجادة؟
- الأفلام الأوروبية لم تكن متاحة. ولكن كانت تأتينا أفلامٌ أميركية. آنذاك، لم نكن في زمن الانترنت. كلّ شيء كان محدوداً. حتى في الجامعة، لم تكن السينما الأوروبية متاحة. 


* إذاً، لم تعش الحكاية الرومنطيقية للطفل الذي يهرب من المدرسة لمشاهدة الأفلام…
- لا، للأسف! درستُ في مدرسة راهبات وكان التعليم فيها قاسياً، والأمن مشدداً، وكنا نذهب إلى المدرسة ونعود منها بالباص. حلمتُ أن أصبح راهباً. خلال الصفّ، كان النظام صارماً، فنغادر المنزل في السادسة صباحاً، وقبل وصولنا إلى المدرسة نمرّ عبر الكنيسة. إنه النظام الكاثوليكي بامتياز. الساعة الخامسة نعود إلى البيت. كانت حياة روتينية جداً.


* هل من لحظة معينة قلتَ فيها لنفسك أريد أن أكون سينمائياً؟
- (بعد تفكير). لا، كنتُ ملماً بفنّ التشكيل والتصوير. أحببتُ الفنّ بشكل عام. عندما تخرّجتُ كلّ ما كنت أتمناه هو أن أصبح فناناً مشهوراً.


* ألم يكن لديكَ أيّ مرجع سينمائي؟
- ليس خلال طفولتي. بدأتُ أعرف السينما جيداً وأشاهدها فقط عندما بدأتُ أنجز الأفلام (ضحك). قبل ذلك، كانت معرفتي بالسينما تقتصر على الأفلام الفيليبينية. أتحدّث عن سنوات التسعين؛ لم يكن سهلاً الوصول إلى الأفلام. 


* كيف كان ردّ فعلك عندما اكتشفتَ سينما مغايرة عن تلك التي رافقتْ طفولتك؟
- بدأتَ بالتعرف إلى بعض السينمائيين عندما راح النقّاد يقارنونني بهم وبأسماء لم أكن سمعتُ عنها قط. رحتُ أشاهد تلك الأفلام فوجدتُ أنه ثمة بعض التشابه! هكذا اكتشفتُ الأخوين داردن مثلاً، بعدما قيل أننا نهتم بأناس عاديين يعانون مشكلات عادية. أنا الآن معجبٌ جداً بأفلامهما. ثم بدأتُ أتعرّف إلى تروفو وطبعاً الواقعية الإيطالية الجديدة.


* هل أرخت تربيتكَ الكاثوليكية أثراً في تكوينك السينمائي؟
- أعتقد أنّ لتربيتي هذه تأثيرين فيّ، واحد إيجابي والآخر سلبي. الشقّ الإيجابي هو أنني اختبرتُ هذا كله من الداخل وأعرف ماذا يعني أن تكون كاثوليكياً. وفي الوقت نفسه، عندما تخرج من القمقم الكاثوليكي تكتشف أنّ ثمة عالماً تجهله كلياً (ضحك)، وهو لا يشبه بالضرورة العالم الذي تخيلته. بعد المدرسة، ذهبتُ إلى جامة سانتو توماس التي بناها الإسبان لدراسة الفنون الجميلة، فلم يكن النظام صارماً كما في المدرسة. هناك، في تلك المرحلة من حياتي، بدأتُ أعرف الفارق بين الفيلم الرديء والجيد، وبين السينما التجارية والسينما البديلة. كنتُ أنحاز إلى السورياليين. لا أعرف إذا كنتَ تعرف لينو بروكا وايشميل برنال ومايك دو ليون. بطريقة ما، كان هؤلاء مصدر وحي لي، لأنهم كانوا طليعيين في مجال الواقعية الاجتماعية. استلهامي منهم كان أكبر من تأثيرهم فيَّ. 


* ما كان الهدف من رغبتكَ في الرهبنة؟
- (ضحك). عندما تكون صبياً وترى الراهب يقدّم الذبيحة الالهية، تتأمل الناس الذين يخاطبهم وتُصاب بدهشة. ثم تكتشف أنّهم يستمعون اليه، وله سطوة كبيرة على العقل. أدهشني هذا وأنا طفل. استوقفني أنّ ثمة شخصاً يقول للآخرين ما ينبغي أن يفعلوه وما ينبغي أن يمتنعوا عن فعله.


* في المقابل، الوعظ في السينما ليس محبباً…
- بالطبع. كطفل، أنت ترى الأشياء من منظور آخر، ثم تكبر وتكتشف أنّ هناك عالماً آخر. يتم إخفاء الواقع على الصغار. ولكن، في النهاية، أقول لنفسي إنه كان ينبغي عليّ المرور من هناك كي أصل إلى هنا. فتى الأمس هو الذي صنع رجل اليوم. ما زلت مديناً إلى الذين أسّسوني، ولكن لا تدرك هذا الأمر إلا عندما يُتاح لك مجال الاختبار. لو لم أعش ما عشته عندما كنت صبياً، لما عرفتُ الفارق. 


* هل ما زلت مؤمناً؟
- نعم، ولكن بطريقة مختلفة. بتُّ الآن أكثر واقعية. ربما لم أعد أمارس الطقوس كما في السابق، ولكن أعتبر نفسي شخصاً روحانياً. لم أعد أفعل الا ما ينبع من قلبي. 


* ماذا عن الرقابة في الفيليبين؟
- ثمة رقابة في الفيليبين، لكنها لم تمنعني من العمل وقول ما لديّ. لم أفكّر فيها يوماً وأنا أنجز أفلامي. التفكير فيها أتى في مرحلة لاحقة. في الطفولة، عندما يُقال لنا افعل هذا ولا تفعل ذاك، نذعن لأوامر الأهل، لكن عندما نكبر، نصبح أصحاب عقل وعاطفة، وعندئذ نعلم ما هي مصلحتنا، لذا علينا أن نصغي إلى صوتنا الداخلي ولا شيء سواه، ونترك الآخرين يتكلمون عما فعلناه بعد ذلك.


* صوّرتَ جماعات غير الجماعة التي تنتمي إليها في أحد أفلامك؟ هل يعتبر ذلك مسألة حساسة؟
- لا أنجز فيلماً عن الآخر من دون معرفة ثقافته. ضروري جداً بالنسبة إليّ كمخرج أن أعرف حكايات جماعات أخرى في الفيليبين. ليس عدلاً وصف الأقليات بجهل. أنت تقتحم خصوصياتهم وعليك بالتالي أن تتمسك بحدّ أدنى من محاولة فهمهم. لذلك، عندما أصوّر فيلماً عن قبيلة مهمّشة، أحرص على الإحاطة بها من كلّ جوانبها.


* ماذا تفعل مثلاً، هل تعيش وإياهم مدّة؟
- بالتأكيد، هذا ضروري جداً. لم أكن أعرف مثلاً أنّ الذين صوّرتهم في "رحمة" هم بشر درجة ثانية حتى ضمن جماعتهم. في مانيللا، تراهم يتسوّلون في الشوارع، والناس تنظر إليهم بازدراء. ثم اكتشفتُ أنّ الاحتقار يمتدّ إلى أقرب الناس إليهم. والناس لا يختلطون معهم. كنت أجهل ذلك عندما ذهبتُ إلى هناك للمرة الأولى. فهم يعيشون على جزيرة بعيدة من البشر تتطلب أن تستقلّ طائرتين للوصول. ما ساعدنا ونحن نصوّر "رحمة"، هو أنّ الذي يُجري البحوث شخص من تلك المنطقة. قادنا إلى منزل زعيم الطائفة، بقينا هناك فترة وساعدناهم في الطبخ وأكلنا معاً على طاولة واحدة وتشاركنا النوم. طبعاً، لم نبلّغ السلطات المحلية. الذهاب إلى هناك من دون إعطاء علم يُعد بعض الشيء خطراً. عندما اكتشفوا أنّنا هناك، ونخطط للتصوير، قيل لنا إنّ المغامرة خطرة جداً، ومن المستحسن حتى ألا نأكل طعامهم! فقلت لهم: ماذا؟


* كثر يفاجئهم أن تصنع فيلماً كلّ سنة؟ من أين لكَ هذا النشاط وكيف تجد المال أصلاً؟
- تعرف؟ لا تحتاج إلى الكثير من المال لإنجاز فيلم. الأهم أن تجد مستثمراً، وليس عليه أن ينفق الكثير كما هي الحال في أوروبا أو مناطق أخرى من آسيا. هذا جزء من ثقافتنا في الفيليبين حيث إنجاز فيلم أسهل من أيّ مكان. أدين أيضاً بهذا النشاط إلى الروح الجماعية التي أبعثها بين العاملين في أفلامي. أعملُ بطريقة خاصة ومحددة جداً، خلافاً للسينما التجارية التي تحتاج إلى الكثير من العناصر والكثير من الإضاءة والكثير من كلّ شيء. لا أعمل على هذا النحو. أعتني أكثر بالموضوع الذي أعالجه. هكذا بلورتُ منهجيتي. لذلك، لا حاجة لي إلى الكثير من الناس في موقع التصوير، وهذا ما يجعلني أوفّر مالاً. عندما تركّز على الحبكة، تصبح الجوانب التقنية همّاً ثانوياً. إذا حصلتُ على المزيد من المال في المستقبل، فسأوظّفه في الجانب التقني. 


* كيف تعيش صعود الأصوليات الدينية والتطرّف في عالمنا؟
- أعتقد أنّه لا علاقة للأمر بالدين. لكلٍّ إيمانه. مينداناو في الفيليبين منطقة منقسمة كونها شهدت صراعات بين المسيحيين والمسلمين. عندما أجريتُ بحوثاً عن المسلمين لأكتب سيناريو "رهينة"، كوني كاثوليكياً، كنتُ طرفاً في الصراع ولكن من دون القيام بعمل تبشيري. أجريتُ بحوثاً عن "أبو سياف" والجماعة التي يترأسها، ولأن الفيلم يأتي من وجهة نظر كاثوليكية فالسقوط في الأحكام سهل جداً. هكذا هي الطبيعة البشرية، فما نعرفه عن الآخر سطحي جداً. لكن عليك خلق توازن، مع ما يمثله هذا من خطورة عندما يتعلق الأمر بإرهابيين. وأنتَ تجري البحوث، تتولد وحدة حال بينك وبينهم. فهم على غرارك، يؤمنون بقضية. لكن، حتى في هذه الحال، أنا نصيرُ التوازن، لأنني لا أريد أن يعتقد المتفرّج بأنني أفرض عليه فلسفتي. في المقابل، لدي اقتناعاتي، وأنا ضدّ العنف أولاً وأخيراً.