الضحايا المنسيون والمنسيات في الجنوب: العمّال والعاملات المهاجرون

بتول يزبك
الثلاثاء   2024/03/26
المحنة الإنسانيّة الّتي يعيشها أهل الجنوب تتضاعف أثقالها على العاملين والعاملات المهاجرين (علي علوش)

الإجحاف والجحود، لعلّهما الكلمتان الأنسب لتوصيف الإهمال المنهجيّ، والتعالي المتأصل في جوهر علاقة اللّبنانيّ التاريخيّة مع العمّال والعاملات المهاجرات وسائر الأقليات المُتعثرة والفئات المقهورة، كاللاجئين من شتّى الجنسيات؛ الّتي هي أصلًا جزء من نسيج لبنان السكّاني والاجتماعيّ، المتنوع -الذي يُتغنى به عندما يكون النسيج أبيض- هذه العلاقة الّتي لم تتسم بالتّوازن قط، لا القانونيّ ولا الاقتصاديّ ولا حتّى الأخلاقيّ، كأرضيّة لحسٍّ إنسانيّ مشترك وعادل، بل كانت نقطةً سوادء قاتمة في سجل لبنان الحقوقيّ، ومثار حرجٍ وخزيّ.

الضحايا المنسيّات: تروما الصراعات والكوارث
في أعقاب حرب تموز العام 2006، نشرت منظمة الهجرة الدوليّة (IOM) تقريرًا أشارت فيه إلى "الضحايا المسنيين والمنسيّات" في خضّم الصراع وما تلاه من ورشة الإغاثة والإعمار. هؤلاء الضحايا من العاملات الأجنبيات المهاجرات (وتحديدًا العاملات في المنازل) وأطفالهن، الذين كانت محنتهم موضع تجاهل رسميّ وإنسانيّ، أكان من جهة خطط الطوارئ أو ما لحق بهم من أرباب العمل، الذين استغنوا عنهم أثناء الحرب وبعدها، ما خلف العشرات (إن لم نقل المئات)، في الشوارع وأمام القنصليات، يستجدون المساعدة أو العودة إلى بلدانهم. هذا الأمر الذي يبدو حقًّا طبيعيًّا، لكّنه في لبنان امتياز، بسبب قانون الكفالة، وما يتفرع عنه من تدابير قانونيّة مُجحفة وصارمة بحقّ العمّال، وضمنًا الاستثناءات المفروضة على العاملات في المادة السّابعة من قانون العمل اللّبنانيّ (راجع "المدن").

السّيناريو هذا، تكرّر أثناء جائحة كوفيد -19 وتفجير المرفأ، إذ تمّ توثيق عشرات حالات التّمييز حتّى في أعمال الإنقاذ وإنتشال المنكوبين من تحت الركام، وما تبع ذلك من صيانة المساكن المتضرّرة، وتقديم المساعدات الإنسانيّة للمتضررين، حيث تشرد العشرات من العمّال فيما طرد عددٌ كبير من أرباب المنازل العاملات من دون رواتبهن ولا وثائقهن، كل ذلك يُعزى تحت ذريعة الأزمة الاقتصاديّة وفوارق الدخل مع الانهيار المُطرد في الليرة أمام الدولار الأميركيّ.

ونظرًا، لكون السّياق لم يختلف منذ العام 2006 مرورًا بالعام 2020 حتّى اللحظة، لا شيء يدفعنا للاعتقاد أن أوضاع العاملات الأجنبيات قد  تحسن، خصوصًا بظلّ الجمود القانونيّ والتشريعيّ في قضيتهن، وكذلك بسبب تعمّق الأزمة الاقتصاديّة وحالة انتفاء اليقين وغياب إمكانيّة توقع سيناريو عسكريّ حتميّ. وعليه أعدّت جمعيّة حركة مناهضة العنصريّة (Anti – Racism Movement) وهي حركة شعبيّة أنشأتها جهات شبابيّة ناشطة في لبنان بالتعاون مع عمّال وعاملات أجانب، للعمل على توثيق الممارسات العنصرية والتحقيق فيها وفضحها ومحاربتها من خلال مبادرات وحملات عديدة، تقريرًا إبان اشتعال الجبهة الجنوبيّة ووصولها الذروة مطلع العام الجاري، نقلت فيه أبرز التحديات التّي تواجه العمّال والعاملات حاليًّا، وفي حال تحقق سيناريو الحرب الشاملة.

أعباء مضاعفة
وتمّ تحديد المعلومات التي أوردها هذا التقرير من قبل منظمي المجتمع وممثلي 16 دولة مختلفة، لتقييم الاحتياجات الناشئة بالفعل عن وضع البلاد، بالإضافة إلى مخاوف العمّال والعاملات بشأن مستقبلهم في حالة التصعيد. وجاء في التقرير أنّه ووفقًا لمرصد المهاجرين التابع لمنظمة الهجرة الدوليّة في لبنان، يُقيم حوالى 12 بالمئة من العمّال المهاجرين في البلاد في المناطق المتأثرة بالفعل بشكلٍ مباشر بالنزاع، أي في مدينة صور بنسبة 6 بالمئة، النبطيّة بنسبة 5 بالمئة، وبنت جبيل بنسبة 1 بالمئة. ومعظمهم من العمال المقيمين. وقد نزح العديد من سكان هذه المناطق، فضلًا عن آخرين من المناطق المجاورة، داخليًّا وانتشروا في بقية أنحاء البلاد.

ووفق التّقرير، لا يزال وضع المهاجرين غير مرصود ومعروف في هذه المناطق. أما الافتراض العام فهو أن العاملات كن سيهربن مع أصحاب العمل، لكن التجارب السّابقة أظهرت أنماطًا مقلقة من تخلي أصحاب العمل عن عاملات المنازل الوافدات في أوقات الأزمات. كما يثير إغلاق الشركات وهروب أصحاب العمل تساؤلات حول العمال الذين يعيشون بمفردهم، والذين قد يفقدون وظائفهم ومصادر دخلهم.

وإذ يحاول منظمو المجتمع دعم مواطنيهم، ويقوم العمال الإثيوبيون الذين يعيشون في صيدا والجنوب بتجميع قوائم بالعمال الإثيوبيين المقيمين في الجنوب بناءً على طلب قنصليتهم، فإن العديد من العاملات الإثيوبيات تصادر جوازات سفرهن، أو قد تكون غير موثقة، مما قد يعقد حصولهن على الخدمات التي تقدمها سفاراتهن. وعلاوة على ذلك، فإن الجهود التي يبذلها فرادى منظمي المجتمعات المحلية لها قيود متعددة ولن تكون كافية للحصول على قاعدة بيانات كاملة، لا سيما في سياق عدم الاستقرار والنزوح.

وأفادت بعض المجتمعات الأخرى ذات التعداد السكانيّ الأصغر والموظفين القنصليين المستجيبين مثل الفلبين وكوت ديفوار وتوغو أن ممثلي قنصلياتهم قاموا بفحصهم، في الغالب من خلال مجموعات الواتساب، وضمنوا إجلاء المهتمين وإعادتهم إلى أوطانهم. ومع ذلك، فإن منظمي المجتمعات المحلية الآخرين من بلدان مثل كينيا والكاميرون ليسوا على اتصال بالفعل بمواطنيهم في الجنوب، ولم يبلغوا عن أي جهود من جانب قنصلياتهم للعثور على المهاجرين المتضررين أو مساعدتهم.

وتفيد التقارير بأن التشريد الداخلي لسكان الجنوب قد أثر على المهاجرين في مناطق أخرى. فقد أفاد العديد من المنظمين المجتمعيين أن عاملات المنازل المهاجرات بدأن يواجهن زيادات في الإيجارات وتهديدات بالإخلاء: وحسب ما ورد، يرجع ذلك إلى نية أصحاب العقارات الاستفادة من حاجة المجموعات النازحة إلى السكن، أو في حالات أخرى لإيواء أفراد الأسرة أو المعارف الشخصيّة أو العائلات اللبنانية من الجنوب في المنازل التي استأجروها بالفعل للعمال المهاجرين.

التحديات المتوقعة
وتوقعت جمعيّة حركة مناهضة العنصريّة بعض التحديات، بالنظر إلى الوراء بأثرٍ رجعيّ إلى أزمات مماثلة في لبنان. وغالبها يعاني منها المهاجرون بالفعل، سواء في المناطق المتأثرة مباشرة بالحرب و/أو بالنزوح. ومع ذلك، فإن التصعيد الأمني يعني أن هذه التحديات قد تستمر على نطاق أوسع، ومنها: زيادة العنف ضدّ العمال المنزليين المهاجرين، التحديات المتعلقة بالإخلاء، والأخرى المتعلقة برسوم الإخلاء والقدرة الاستيعابيّة، غياب التعاون القنصليّ أو ضعف الموقف الرسميّ، إيجاد ملاجئ، المهاجرون المحتجزون وغير المُفرج عنهم في حال الحرب، وبدلات النقل والغذاء والطبابة.

أما اليوم، وبينما تدور التساؤلات حول إسهامات السّلطات اللّبنانيّة في إغاثة النازحين، وتحتدم النقاشات السّياسيّة والشعبيّة حول التعويضات العادلة للمتضرّرين والضحايا من المدنيين ومقاتلي حزب الله في الجبهة الجنوبيّة، بما في ذلك أحقيّة الحصول عليها، وعن مصادر تمويل أي خطّة تتدرج ضمن هذا السّياق.. يبدو أن أي حديث عن موضوع العمّال والعاملات المهاجرات واللاجئين السّوريّين، في الجنوب يغيب كليًّا عن هذه النقاشات، ناهيك بظروفهم الإنسانيّة وأعمال الإغاثة والمساعدة لهم في المحنة الإنسانيّة الّتي يعيشها سائر سكّان الجنوب. هذه المحنة الّتي ترخي أضعافًا مضاعفة من الأثقال على كواهلهم.