* انطلاقاً من تعريفك النقد الإيكولوجيّ/البيئيّ، وطبعاً من كلّ تعريفات هذا النوع من النقد، هل يكفي أن يتناول النصّ الإبداعيّ (نثراً او شعراً) وصف الطبيعة وعلاقة الانسان بها لكي يُصنَّف ضمن الأدب الإيكولوجيّ/البيئيّ الذي هو موضوع هذا النوع من النقد؟
- ليس الأدب الإيكولوجيّ مجرد محاولة لوصف المشهد الطبيعي من خارج، بل هو يرتكز الى خلفيّة فكريّة مفادها أنّ الإنسان ليس وحده في هذا العالم وأن الطبيعة تقاسمه الوجود وأن لها قوانينها ونظام حياتها الذي ينبغي احترامه.
* هل يجب القول بوجود أدب إيكولوجيّ (متخصّص) لكي يكون هناك نقد إيكولوجيّ؟ أم نكتفي بقواعد سائر أنواع النقد مثل الموضوعاتي مثلاً؟
- النقد الإيكولوجي هو منهج جديد نسبياً فقد ظهر أولاً في أميركا في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، ليصل فيما بعد إلى أوروبا. وفي اعتقادي أنه نشأ لمواكبة ذلك الوعي البيئي الذي بدأ ينعكس بصورة واضحة في الكتابة الإبداعية نتيجةً للخلل الذي أحدثته المدنيّة الحديثة في العلاقة بين الإنسان ومحيطه الطبيعيّ. لكن هذا النقد يتداخل مع سائر المنهجيات النقديّة التأويليّة التي تنظر الى النصوص كتعبير عن طريقة حضور في العالم.
* ما مدى ارتباط النقد الإيكولوجيّ بالقضيّة البيئيّة المطروحة عالميّاً منذ سبعينات القرن الماضي؟ وعليه إلى أي مدى يمكن اعتبار الشعر المعاصر الذي يتّخذ الطبيعة والبيئة موضوعاً له (عَرَضاً أو تعمّداً) معنيّاً بـ"القضية" الإيكولوجيّة؟
- لا يجب الخلط بين حضور الطبيعة كعنصر فاعل في عالم القصيدة ومسألة الإلتزام بقضية البيئة. ذلك أن القصيدة هي تعبير عن حالة وليس عن مشروع سابق لولادتها. وأعني بالحالة جملة الأفكار والمشاعر والهواجس والإحساسات التي تتولد في اللحظة الإبداعيّة فتولد القصيدة. الشاعر الذي يحدس بدبيب الحياة في جذع شجرة، أو يصغي لصراخ غصن تقتلعه يد حطاب، هو بيئي على طريقته لكن رسالته تصلنا بصورة غير مباشرة.
* أدباء وشعراء من أجيال سابقة، وحتى من عصر النهضة، أولوا الطبيعة والمكان أهمّية كبرى في أدبهم (جبران، نعيمة، مارون عبّود، توفيق يوسف عوّاد... وغيرهم) يوم لم تكن القضيّة البيئيّة مطروحة. يمكن إذن إجراء دراسة إيكولوجيّة متأخِّرة عن نتاجهم، فما رأيكِ؟
- يجب التمييز بين نظرة كلاسيكية للطبيعة: الطبيعة الملهمة، الطبيعة-الملاذ، الطبيعة مرآة الذات أو امتداد لها، وبين الطبيعة كوجود مستقل عن الذات ولكن في حالة تفاعل معها. الطبيعة لا تحضر في الأدب الرومنطيقي إلا من خلال وعي الأنا لذاتها المُتَفرِّدة، بينما، في كتابات الشعراء الذين تناولتهم، هي الآخر الذي تحاوره الذات وتسائله وتتكامل معه. يمكن الحديث هنا عن علاقة بين طَرفَيْن أو بين كيانيْن يفعل الواحد في الآخر وينفعل به. أما عن مقاربة نتاج الأدباء الذين أشرت إليهم من منظور النقد الإيكولوجي فلا أجد مانعاً من ذلك، المهم أن يكون النص قابلاً لمثل هذه المقاربة لأن النصوص هي التي تفرض طريقة مقاربتها لا العكس وإلا تحوّل النقد إلى نظريات تُسقَط عنوة على النص فتخطىْ الغاية المنشودة أي الإضاءة عليه. لأن الناقد بالنسبة لي هو الوسيط بين الشاعر والقارىء وتلك مسؤولية كبيرة.
وينطبق الجواب أيضاً على الأدب الرومنطيقي عموماً، في أوروبا على الأخصّ.
* بالمناسبة، هل بات هناك نقدٌ إيكولوجي عربيّ؟ أقلّه ناشئ أو صاعد؟
- ما زال هذا المنهج النقدي يتبلور ببطء حتى في أوروبا ولم تزل ملامحه غير واضحة المعالم تماماً، لكن الاهتمام به قد بدأ لدى قلّة من النقاد العرب.
* انتقد الأدباء "المدينة" كونها تمثّل التطوّر الصناعيّ والعمرانيّ الذي فتك بالبيئة (نصّ نعيمة الشهير عن مدينة نيويورك، وغيره كثيرون)، لكن أصحاب القضيّة البيئيّة "عطفوا" على المدينة أو "تعاطفوا" معها، واعتبروها (بناسها وطبيعتها) ضحية هذا التطوّر أيضاً. هذا الهمّ لم نلحظْه عند الشعراء المعاصرين (باستثناء نصّ فوزي يمّين عن مدينة سيدني المُشجّرة "ربّما من حين بُنِيَت" كما يقول)، ألا يغيّر ذلك في المعطيات ويغيّر التوجّهات؟
- معظم الشعراء الذين تناولتهم الدراسة ينظرون الى المدينة بمنظار سلبيّ فهي المكان-السجن، المكان-المنفى، المكان-العزلة. ذلك أن مشهد العالم المعاصر كما يتراءى في القصائد مُلَوَّن بالعنف والدم ويطغى عليه الظلم والفقر والوحشة. ولا غرابة في ذلك خصوصاً أننا نعيش اليوم في عالمنا العربي كل هذا الكم من المآسي والصراعات، تكفي الإشارة الى مراكب الموت التي تطالعنا أخبارها كل يوم. أضف إلى ذلك أن توسع المدن يتم على حساب المساحات الخضراء، وأن المباني الشاهقة تحبس الهواء، والمولات الضخمة تروج لثقافة الاستهلاك، كل ذلك يجعل من المدينة بالنسبة للشعراء مكاناً معادياً.
* ماذا تتوقّعين لهذا النوع من النقد عالميّاً وعربيّاً؟
- يمكن القول إن النقد الإيكولوجيّ الذي نشأ نتيجة لوعي المشكلات البيئية الراهنة، والذي يرتكز على عدم الفصل بين الإنسان ومحيطه الطبيعيّ، وبين الثقافة والطبيعة، يُسهم إلى حدٍ بعيد في تشكيل وعي جديد متحرّر من العقلانية الفجّة، يعيد الإنسان إلى موقعه الطبيعيّ في هذا الكون، كحارس وحارثٍ له، مؤتمنٍ عليه، مسهمٍ في نموه وفي الإستفادة من عناصره بطريقة مُستَدامة. وهو يندرج في سياق توجهات ثقافية جديدة ظهرت في كثير من الأوساط العلميّة والفلسفيّة والفنيّة والأدبيّة، تعبّر عن موقف نقديّ من مركزيّة العقلانيّة الغربيّة وتؤكد على الحاجة الماسّة إلى ربط التطوّر التكنولوجيّ والعلميّ بالأخلاقيّات، ولبلورة رؤيا للإنسان والعالم تأخذ بعين الاعتبار العلاقات المركَّبة بينهما. لذلك فهو مرشح للاستمرارية والانتشار.
ــــــــــــ
هكذا إذن، يتّضح أنّ للنقد الإيكولوجيّ في نظر زهيدة درويش جبور وظيفتين أساسيّتين، وهو في ذلك يتطلّب تناغماً بين الأديب والمتلقّي لكي تتبلور مفاعيله، وهو لذلك "يواجه تحدّياتٍ عديدة" بفعل عدم اتَضاح منهجيته فيضطّر إلى النهل من منهجيّات أخرى معهودة، ولأنّه ينظر إلى الإبداع الأدبي كوسيلة لإثارة الوعي. ففي رأي الكاتبة أن "نجاح الناقد الذي يعتمد هذا المنهج يبقى مَنوطاً بقدرته على الكشف عن السِّمات الجماليّة والفنيّة في النصوص الأدبيّة وعلى استكشاف وعي خاص للطبيعة ومكوّناتها يتفاعل مع وعي الكاتب لذاته من جهة، ومع وعي المتلقّي للنصّ وللعالم من حوله، من جهة أخرى. فالنقد الإيكولوجيّ ينطلق من الداخل النصّي ويأخذ بالاعتبار السياق الخارجيّ وصولاً إلى تأويل النصّ ثقافيّاً وبيئيّاً".
وقد صرّحت الباحثة بضرورة إيلاء قضيّة البيئة الأهمّية اللازمة، وهذا ما يقوم به الناقد الإيكولوجيّ الذي يقف بجانب الشاعر أو الأديب، مفسِّراً ومؤوّلاً ولاعباً دوراً توعويّاً، وذلك التزاماً منه بقضية الإنسان والكون الذي يعيش فيه، أخلاقيّاً ودينيّاً. فمن الإنجيل المقدَّس إلى القرآن الكريم، استشهدت جبّور بنصوص وآيات تدعو الانسان المؤمن إلى احترام طبيعته والكون الذي يعيش فيه على أساس "عدم الفصل بين الإنسان ومحيطه الطبيعيّ"، وليس أدلّ على الإيمان بهذه الوحدة الكونيّة والدعوة إليها من رسالة الفاتيكان الخاصّة الصادرة في العام 2015 وقد اقتبسَتْ منها هذا المقطع "لصلتِه العميقة بغايات النقد البيئيّ ودلالته العميقة":
"إذا اقتربنا من الطبيعة ومن البيئة بدون هذا الانفتاح على الذهول والاندهاش، وإن لم نتكلّم بعد لغة الأخوّة والجمال في علاقتنا مع العالم، فإنّ تصرّفاتنا ستكون تصرّفات المتسلِّط والمُستهلِك والمستغِلّ للموارد الطبيعيّة، غير القادر على وضع حدٍّ لمصالحه العاجلة. والعكس صحيح، فإن شعرنا بأنّنا متّحدون اتّحاداً وثيقاً بكلّ شيء موجود، فإنّ الرصانة والاكتراث سيتدفّقان في داخلنا بطريقة عفويّة".
وهذا في رأيها ما يسعى النقد الإيكولوجيّ إلى تبيانه في أعمال الشعراء "الاندهاش والذهول... امام تجلّيات الحياة وجمالاتها... فالشعر ليس مجرّد كلمات تُكتَب وقصائد تُنشَد، بل هو أسلوب حياة وطريقة وجود".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها