تتصف الفصول التي تجسد الزيارات بأنها لا تحمل خطاً بيانياً لحكاية ما، بينما تسير الحكاية في الفصول التي تتخللها، والتي تحمل عناوين صغيرة. يتقلّب القارئ بين حاضر ثابت ثقيل الظل في إسطنبول، وماض متحرك لحكايته خط بياني واضح. وهناك نتعرف على أحمد ابن المدرِّسة المسيحية، وبائع أشرطة الكاسيت المسلم الذي أحبها، فتزوجته، وهربا من أسرتيهما إلى دمشق، ليتوفى الأب لاحقاً، ويعيش أحمد مع أمه التي باتت تشكل ثلث عالمه، بعدما كبر ووجد نفسه خلف ماكينة الدرزة، في مشغل خياطة يشكل الثلث الثاني من عالمه، بينما يشكل نادي كمال الأجسام الثلث الأخير.
قُبلة في مطبخ
حياة رتيبة، تكبّلها الوحدة، لا أصدقاء، ولا حياة اجتماعية، ولا حبيبة، رغم قُبلات مسروقة من "أميرة"، الفتاة التي تعمل في مشغل الخياطة مع عمتها، تلك التي تلجم حياتها بعون الأعراف والعادات، فيبدو تقبيلها لأحمد في مطبخ المشغل، مغامرة من الطراز الرفيع، لا يمكن تصور حجم المخاطر التي تنطوي عليها.
وفي ظل هذه الرتابة، تحمل الصدفة أحمد إلى عالم آخر في دمشق، أكثر انفتاحاً وحرية، عبر أميركية من أصل عراقي أتت لتتعرف على أحوال اللاجئين العراقيين الطبية، فيساعدها أحمد، وتبدأ بينهما معرفة تقوده إلى "نسرين"، صديقتها السورية المثقفة والمتحررة، صنو "أميرة" عاملة المشغل ونقيضها. فيتكسر العالم البليد من حوله، وينفتح أمامه عالم جديد، مليء بالمتعة، والحيوية، فتأخذه نسرين من سريرها إلى المسرح، إلى عوالم فن العمارة، إلى نقاشات لا تتحرج فيها من أن تعلن أكثر من مرة، أنه ينتمي إلى عالم أكثر انصياعاً وتقبلاً للأمور على حالها، وأنها تنتمي إلى عالم أكثر تمرداً وصدامية مع كل ما هو ثابت من حولها، وهو ما تحتاجه سوريا.
ينقلب عالم أحمد الذي بدأت تتسلل إليه المتعة من طريق نسرين، عندما تخبره أميرة أن أبا محمد، صاحب المشغل، تحرش بها، فيظن أنه ربما تجرأ على ذلك بعدما رآه يقبلها خلسة، ويتحرك الوحش الراكد بداخله رويداً رويداً. ومع رغبته العارمة بقراءة رواية الجريمة والعقاب لدستويفسكي، وجعلها مرجعاً لما يفكر فيخ، يتضخم الوحش الذي سيقوده أخيراً، وبعد تراكم العديد من التفاصيل، أحدها شكّه في إمكانية أن يكون أبو محمد قد تحرش بأمه مستغلاً كونها أرملة تعيل يتيماً. وحينما كانت أمه تنجز لأبي محمد بعض الأعمال، تسود الصورة، فيقوده وحشه إلى قتل صاحب المشغل.
السفر إلى أميركا
بعد هذه اللحظة، يبدأ العالم البسيط لأحمد، بالانهيار، تمرض أمه، وتموت، فيما تحصل نسرين على منحة للدراسة وتسافر إلى أميركا، بعدما طالبته بقطع العلاقة معها كي تتحرر من أي أعباء. أُغلق المشغل، وأميرة اختفت، ولا سبيل للوصول إليها في ظل الحراسات المشددة من قبل العائلة، وتغييرها رقم هاتفها، وهنا بات لا بد من ترك البلاد التي بات فيها وحيداً تماماً، وهارباً من العدالة.
عند هذا المنعطف تتضح كل معالم الرواية، ويخبرنا أحمد بأنه ذهب إلى إسطنبول، المدينة التي ترحب دائماً بالخياطين، إبان بدء الثورة في سوريا، وكل ما همه بعد الثورة هو أن العلاقات بين سوريا وتركيا انقطعت، ولن يتمكن الأمن الجنائي بعد اليوم من القبض عليه. ويسرد كيف بدأ العمل في مشغل خياطة تركي، بظروف عمل روبوتية، مجهدة جداً، لكنه اعتادها، إلا أن الانهيار المستمر في عالم أحمد الداخلي بعد جريمة القتل، يقوده إلى الانتحار رامياً نفسه من الجسر الذي يربط ضفتي البوسفور الآسيوية والأوروبية. ثم يأتي مشهد الختام، الذي تدور أحداثه قبل الانتحار بيوم واحد، يوم جميل، كل ما فيه يُشعر بالبهجة، إلا أن أحمد بعدما شرح لنا كل مسببات البهجة، يخبرنا بأنه، رغم هذا الجمال كله، لن يعدل عن قرار الانتحار.
على امتداد الرواية، لا مجال للأمل، فهي حياة سورية بامتياز، قبل الثورة وبعدها. فالظلم واحد ومستمر، مهما تعددت أبعاده. أحمد لم ينتمِ لعالم راضخ غير متقبّل، ولا لعالم متحرر يسعى نحو التغيير، لقد أراد ببساطة أن يعيش، إلا أنه كي يعيش كان لا بد له من تقبل المنظومة برمتها، تلك التي تطمس حياة أميرة بالكامل، ولا تترك له أملاً بوجود صديق، ويتربع على رأسها أبو محمد بكامل وساخته.
في اللحظة التي أراد أحمد فيها أن يوقف أحد تروس الماكينة، الذي هرس أميرة وانتهكها، وكاد أن يهرسه وهو يسحب الأيام من حياته اليوم تلو الآخر بلا أي أمل يرجى، قُتل أبو محمد. عندها، وكأن السماء على من تحتها وقعت. اختفت نسرين، واختفت التي جاءت تبحث عن العراقيين وأمراضهم في بداية الرواية، وما استطاعت أن تكون إلا جسداً مثيراً خلالها تمارس كل أنواع الغواية مع صديقها الفرنسي اللطيف الذي لا يتحدث إلا غرائبيات حصلت له في بارات مختلفة في العالم.
ماكينة الدرزة
ذنب أحمد أسود الوحيد، أنه ولد ليكبر وراء ماكينة الدرزة، يحاول أن يرتق ما تمزقه قساوة الأيام في هذه المدينة يومياً، وليس في الإمكان رتقه، وأن يصنع من جسده طوق النجاة القاسي في أندية كمال الأجسام، ذاك الجسد الذي دخل بغوايته فقط إلى عالم نسرين. كان على أحمد، إما أن يقتل أبا محمد، ويصبح مجرماً، فيما هو لا يجيد التعامل مع نفسه على هذا النحو، فينتحر.. أو أن ينتظر مع المنتظرين، عسى أن يتمكن في يوم ما أن يفتح لنفسه مشغلاً، ليتحرش بعاملاته مقتدياً بمعلّمه أبي محمد.
في أغنية له بعنوان "فئران تجارب"، قال المغني المصري علي طالباب العام 2014 "لو لمسنا الشمس ح نخلص محروقين"، فجاءه الرد مبطّنا على لسان شاعر العامية المصرية أحمد الطحان في قصيدته "زينب" التي يرثي بها الناشطة زينب المهدي بعدما شنقت نفسها يأساً من البلاد:
"لو قربنا م الشمس ح نتحرق يا علي
ولو وقفنا في الضل ح نبرد
وح نختفي لو وقفنا في المسافات".
أحمد أسود هو ذاك الشاب الذي وقف في المسافات، فاختفى في دمشق، واختفت أميرة، وعمّتها، وأمه، إلى أن لمس الشمس، واحترق.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها