الخميس 2020/10/29

آخر تحديث: 13:14 (بيروت)

"سوريو الباصات الخضر": أدب المقالة.. والمقالة المؤدّبة

الخميس 2020/10/29
"سوريو الباصات الخضر": أدب المقالة.. والمقالة المؤدّبة
تأخذك المقالات من قرية نائية في طرطوس السورية، إلى مخيم كاليه في الشمال الفرنسي
increase حجم الخط decrease
صدر عن دار موزاييك للدراسات والنشر، الطبعة الأولى من كتاب "سوريو الباصات الخضر" للكاتب الفلسطيني السوري راشد عيسى، ويتضمن الكتاب 32 مقالة كتبت على امتداد أكثر من عشرة أعوام، ونشرت سابقاً في صحف ومنصات إلكترونية عديدة، إلا أن الجديد في هذه المقالات كلها هو تكوينها الأخير ضمن كتاب جديد أعطاها بُعداً آخر يتجاوز كونها "صحافة للاستهلاك اليومي"، ويثبت هذه المقالات كمرآة سحرية، تريك الأعوام الفائتة في منعطفات محددة، وما صنعته يدها حتى في طريقة تفكيرك.

هي 32 مقالة، لا يمكن تصنيف مواضيعها، تأتيك كحكايات صغيرة، أو نوافذ على المأساة، بل كشروخ في جلد الكارثة السميك، يدخلك إلى النار التي تختبئ تحته. تنوّع وغنى المقالات يجعلك تشعر كما لو أنك تنظر إلى بلّورة متقدة لا تستطيع أن تدرك أين ينعكس فيها النور اللطيف، وأين ينعكس فيها النور المزعج. بعض المقالات مهتم بالمساءلة والعتاب والحزن على أشخاص أبدوا مواقف كان الأولى لو انها قُلبت رأساً على عقب، كوقوف نزيه أبو عفش ودريد لحام وغيرهم مع الطاغية، وقد أُفردت لكل منهم مقالة تسائل موقفه من دون الانخراط في اللغة المسفة التي درجت على الألسنة بعد الثورة السورية، تلك اللغة التي تعتمدها برامج حوارية تلفزيونية، فارضة على المتفرج أن يكون طرفاً في معركة، وكأن معاركه اليومية لا تكفيه رغم عددها المهول، والتي انتقلت إلى الصحافة ليتبادل الكتّاب السباب عبرها، أكثر مما يتبادلون الأفكار.

على عكس هذا كله، وإن كان لوصف أن ينطبق على مقالة راشد عيسى، فهي أنها مقالة مؤدبة، تسائل بخجل العارف لمدى فداحة الجواب، وتصف باستحياء من أن يضرّ الوصف بالموصوف، والحزن وقور في كل مقالاته، لا يعبّر عن نفسه إلا بالدهشة من الأسباب التي يصر الكاتب على عدم تقبلها عاماً بعد عام.

مقالات تلتقط جملة هنا أو كلمة هنا أو خطاباً هناك، يعكس ما يفكر فيه الناس المتعبون من القصف، الحاملون، الطامحون، كما هو الحال في تحليل خطاب الطفل نايف، ضمن مقالة "نايف هو الذي رأى كل شيء"، وإيضاح كيف حفظت لوكين معنى الخبز والملح في مقالة "غرانس لوكين.. طعم المادلين". تتنوع المقالات، وكلما تنوعت كلما ترابط الموضوع أكثر، وكلما شفّت الأوراق المكتوبة عن قطعة إضافية مكمّلة للعبة البازل التي تشكل بمجموع قطعها، سوريا، قبل الثورة بسنوات، بدايات الثورة، أعوام الأمل، وأعوام فقدانه، وأخيراً أعوام الاغتراب. تأخذك المقالات من قرية نائية في طرطوس السورية، إلى مخيم كاليه في الشمال الفرنسي، ومن محاكمة موقف أخلاقي لمثقف سوري، إلى شرود أحد ركاب الباصات الخضر بينما بيته - حيث ترك قلبه - يبتعد عنه تدريجياً.

وبالكيفية التي رتب بها مقالاته، استطاع راشد عيسى ترسيخ بُنية لكتاب "سوريو الباصات الخضر"، تتجاوز، من خلال المقالة النقدية الثقافية أو النص الصحافي اليومي، صفته الاستهلاكية، وتعبر به لتصنع منه أدباً، واقعياً محضاً. وبينما يكون انعدام المتخيل سمة العمل الأدبي عادة، إلا أنه يعتبر أحد أهم ميزات هذا الكتاب. فكل ما هنا حقيقي، ورغم ملامسته سقف الخيال، إلا أنه حدث فعلاً. أدب يعتمد كل ما فيه على ما جاء في سنوات المذبحة السورية من قصص ومواقف، ولعلها من المرات النادرة التي يشعر فيها المرء أن هناك من استطاع الاستزادة بقصصنا، واستطاع كذلك تزويد الصحافة اليومية بالقصص الدائمة التي تخرج من المذبحة لينتج بانوراما تتألف من 32 مقالة نُشرت في مواضع مختلفة هنا وهناك، ولأغراض مختلفة كذلك. بانوراما إنسانية، بعيداً من المفاهيم النقدية المعقدة، بانوراما مصنوعة بوقار، تحاول محاكاة هول الكارثة، وتذكيرنا كم نحن على حق في كرهنا لنظام الأسد.

لم يكن الكاتب متمكناً من مواضيع مقالاته المُشكِّلة للكتاب فحسب، إنما استطاع أن يبرز مع كل مقالة، لماذا اختار أن يكون طرفاً في هذه المأساة، وإلى أي الجانبين، ولماذا، من دون أن يدخل في دهاليز السياسة، ومن دون أن يستصرخ مشاعر قارئه ويطلب منه التعاطف. إنما عبر أسلوب السؤال المباشر الذي لا يمكن أن يكون له إلا جواب واحد واضح، جواب لا يحتاج لمعرفة بل إلى ضمير، كسؤاله في مقالة "إشبيليا تعود.. بابا عمرو يهاجر": "لمن يعرض مهرجان حمص المسرحي ولم يبق من المدينة وريفها إلا القليل؟"... وسؤاله في مقالة "سوريو الباصات الخضر"، بعد أن يتحدث عن الذين أخرجوا من بيوتهم عنوة عبر تلك الباصات ورأوا أن الحياة خارج أحيائهم مستمرة: "عبروا بلدات وقرى كثيرة، وبعيون مفتوحة لا تنام راقبوا من وراء الزجاج المشعور، المشاهد الأخيرة من بلادهم، أي كلام قالوه لأنفسهم حينذاك، أي مشاعر؟".

الأسئلة الواضحة الموجودة في مقالة راشد عيسى، والتي نقرأها بشكل شبه يومي، تتكثّف في هذا الكتاب، فتشكل لوحة سيصعب الاستغناء عنها لاحقاً في تذكّرنا لسنواتنا العجاف. فالكتاب يشكل وثيقة تاريخية، تجد فيها ما جرى، وما أحسسنا به أيضاً، ويضيف للمكتبة السورية الكثير.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها