الجمعة 2021/07/09

آخر تحديث: 13:27 (بيروت)

عودة دانتون.. البروفات كفضاء للعيش

الجمعة 2021/07/09
عودة دانتون.. البروفات كفضاء للعيش
أمل عمران في مشهد من المسرحية
increase حجم الخط decrease
عرض مهرجان شباك المسرحي اللندني عبر الإنترنت، "عودة دانتون" تأليف: مضر الحجي، وإخراج عمر العريان، وهو العمل الذي يصور فرقة مسرحية تتألف من المخرج إياس (كنان حميدان)، والدراماتورج رهف (أمل عمران)، والممثلين رضا (محمد آل رشي) وستيف (محمد ديبو)، وتتمرن هذه الفرقة لأيام معدودة بهدف تقديم مشروعها أمام الممولين كي تحصل على دعم مالي، لتقدم مسرحية الكاتب الألماني جورج بوشنر (موت دانتون)، حيث يسعى المخرج إلى إيهام نفسه، وإيهام الفرقة، والداعمين، بأهمية تقديم قراءة سورية للثورة الفرنسية من خلال النص الألماني المقدم باللغة العربية في ألمانيا.

يحاول إياس أن يتفادى هشاشة هذا الطرح بنوع من الضغط على فريق العمل، والممثلين والدراماتورج غير المقتنعين بالنص، فيبدأ الصراع الرئيسي للمسرحية بين إياس الساعي لإقناع الداعمين بضرورة تقديم المسرحية بأي وسيلة كانت، وليس لديه من الوقت سوى أيام قليلة من أجل التقديم، وبين فريق العمل بأعضائه الغارقين في مشاكل الحياة اليومية للسوريين في ألمانيا، والذين يمتلكون كمّاً هائلاً من الأسئلة حول الموضوع الذي يطرحونه، وهم ليسوا مقتنعين بما يقدمون، وقد بدأوا يضيقون ذرعاً بإياس، الواحد تلو الآخر.

ومع تعرفنا على الشخصيات تتشعب المواضيع، حيث نبدأ مع مسرحية موت دانتون، ومعنى الثورة، والمقصلة، والسلطة، وإعادة إنتاج النظام، وكلها مفاهيم يمكن إسقاطها على الواقع السوري، إلا أن هذه المفاهيم تنقلب في لحظة فتفرغ من المعنى، وتصبح صوراً كاريكاتورية أمام الحياة اليومية للفرقة التي تحاول تقديمها. فستيف، الممثل، ترك مهنة التمثيل منذ أن قدم إلى ألمانيا وأغرق نفسه بالحشيش وصناعة الموسيقى من أجل أن يتجاوز عدداً مهولاً من الصعوبات، هي ذاتها التي يبدو إياس أمامها مثل دونكيشوت يصارع الهواء وطواحينه، لا الطواحين فقط. ورضا تتهدم حياته الأسرية تدريجياً، وهو العالق أمام سؤال أخلاقي يجبره الجواب عليه أن يختار، إما التمسك بمبادئه التي تمنعه من التمثيل في المسلسلات السورية مع ممثلين شبيحة روجوا وساهموا في قتل المدنيين، أو الحفاظ على أسرته والرضوخ لإصرار زوجته التي ترى أنه الوحيد الذي مازال يتعلق بحبال الثورة المنتهية وأن عليه تقبل الهزيمة ومرارتها والعودة للعمل مع أعدائه. أما رهف، فهي الدراماتورج المحترفة العالقة بين العمل مع إياس الذي يستخدم وجودها كأنثى في الفريق من أجل إقناع الداعمين، ويتجاهل أي دور لها كدراماتورج، وبين اضطرارها للعيش تحت ضغط مكتب العمل الذي يصر على التعامل معها كلاجئة لا بد من تأهيلها، لا كمسرحية محترفة تبحث عن عمل.



هكذا، نجد أن جوهر الإشكالية الرئيسية التي تقدمها المسرحية، هي أن الشخصيات اقتُلعوا جميعها من بيئتهم، وأصبحوا لاجئين في مكان مختلف تماماً، ولديهم الكثير من الأسئلة المتعلقة بحياتهم كلاجئين، كأي لاجئين آخرين من أي جنسية كانت. ومن ناحية أخرى، هم مسرحيون لديهم مشكلات في العمل كأي مسرحيين آخرين، إلا أن مشكلتهم أكثر تعقيداً، كونهم أدخلوا في نظام عمل جديد، ويحاولون تلمس أولى خطواتهم فيه، وعادة ما يُنظر إليهم بنوع من التنميط، ويُخلط بين كونهم مسرحيين محترفين يستحقون أن يعملوا في مجالهم باحترام، وكونهم لاجئين مساكين يستحقون التعاطف. ومن ناحية ثالثة، ترزح الشخصيات تحت ضغط العلاقة بين بلد جاؤوا منه، ولبعضهم موقف مما جرى ومازال يجري فيه، وبلد جاؤوا إليه يعانون فيه كي يتعلموا الكلام.. فكيف بالعمل فيه كمسرحيين؟ وهم لا يستطيعون نسيان سبب وجودهم هنا، والقبول بالنظام السوري وما يفعله، واعتبار ما حدث جزءاً من ماضٍ لا بد من نسيانه. كما أنهم ليسوا قادرين على الانشغال فيه على حساب حياتهم اليومية المرهقة مع كل محاولاتهم لجعلها أكثر راحة. ومع كل هذا التشوش، وانعدام أي إمكانية للاستقرار، عليهم أن يتعاملوا مع كل هذه التناقضات، وأن يقدموا مسرحية "موت دانتون" فيصبح الحشيش هو الحل الوحيد للاسترخاء.

وفي حين حَرَم الوباء، الجمهور، من دخول المسرح والفرجة الحية على هذا العرض، فشوهد على الشاشة، ليبدو تخيل الفضاء المسرحي العام مربكاً، إلا أن ما ساهم في إبعاد العرض عن الوقوع في فخ الأداء للكاميرا هو عناصر متعددة تبدأ بأداء الممثلين، ولا تقف عند حدود الأزياء التي لعبت دوراً أساسياً في الإضاءة على أحد جوانب العرض. إذ أن ستيف ورضا، ارتديا ثياب دانتون وروبسبير، القياديين في الثورة الفرنسية، فيما يتحدثان عن مشاكلهما الشخصية. فكانت الصورة وحدها كافية لتشرح حجم الشرخ الموجود بين حياتهم وما يحاولان التدرب عليه.

ربما كان فعل التدرب هو أكثر الأفعال مركزية في العرض. فرغم تعدد الفضاءات، إلا أن الفضاء الرئيسي للأداء، والممتد من البداية للنهاية، كان فضاء البروفات، في محاولة للقول إن أبسط تفصيل في حياة الشخصيات، وصولاً إلى ما يفترض بالنص الألماني أن يقدمه، ما هو إلا تدريب على المسرحية، وتدريب على التواصل، وتدريب على العمل، وتدريب على العيش في المكان الجديد.

تنتهي المسرحية حين يقف فريق المسرحية في انتظار لجنة ألمانية مفترضة. التوتر يأكل الجميع، وأوّلهم المخرج إياس. يقفون كمن يعرضون حياتهم للبيع في سوق النخاسة، فينصح ستيف إياس بتدخين سيجارة حشيش للاسترخاء أمام اللجنة المنتظرة. السيجارة التي يحتفلون بتدخينها جميعاً في نهاية المسرحية كمُنجٍّ وحيد من القلق الناجم عما هو أعقد من الوقوف أمام لجنة من أجل طلب تمويل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها