الحياة المقفرة التي يرسمها السرد، ليس في معالمها أيّ حيّز للتبّدل أو النمّو، بل لحمتها الإستمرار على الحال المقيمة. لذلك لا يكون الموت مأساوياً إلا بما هو فقدان لصورة ما، لإطار من البراءة والشباب وسوء الحظ. لم تكتب منى الشيمي روايتها إلا باقتفائها مواضع الشغور القريب. الألم ومواضعه وكيف يبدو ويستشرس في صورة الغياب، وكأن الشاب الذي ترك في قلب امه أطيافاً في الأرجاء لم يصبح حقيقة إلا بعدما غادر بهدوء وصمت.
منى الشيمي روائية وقاّصة مصرية. أصدرت حتى الآن أربع روايات آخرها: "بحجم حبة عنب"، وثلاث مجموعات قصصية آخرها "رشح الحنين". ورواية "بحجم حبة عنب" هي في الحقيقة عملية تحويل اكتئاب الشيمي، إثر فقدانها ابنها، الى طاقة كتابية استغلتها، والأمر يُشبه هنا المرأة التي وجدت زرّاً صالحاً فقررت أن تخيط له معطفاً. روايتها هنا هي معطفها وحاميها من البرد والفقدان وإن بدت اللوعة ما زالت على تأججها وشراستها.
الشيمي كتبت روايتها مرّة أولى كدفقة حزن من دون الانتباه لتقنيات السرد. مرة اولى احتاجتها لتخرج فيها من حالتها كمن يمارس اليوغا مستعيناً بهذه الرياضة الروحية ليعاود تحمّلهُ ما ألّم به من مصاب. بعد وفاة ابن الكاتبة عادت الشيمي الى العمل على روايتها لتشذيبها وتهذيبها وفق فنيات الرواية التي تعرف، وأحسب أنها لم تبذل مجهوداً يُذكر فالحزن جعلها في حالة من فيضان الوعي، أو تيار الوعي كما سمّاه هنري جيمس لذا كانت حالتها مطابقة لإحدى تقنيات السرد.
تماماً كما لو كان زياد (ابن الكاتبة) ما زال حياً، تسرد الشيمي قصة حياتها له، ما عرفه وما فاتته معرفته. ومن الإهداء نستخلص: الى زياد... سأخبرك عن الحياة التي كان من حقك أن تعيشها! تبدأ تحت عنوان "مخ وأعصاب" العيادة التي قصدتها برفقة ابنها وزوجها بعد مغادرتهم عيادة طبيب العيون، يسيرون في الشارع كموكب مهزوم وشمس يونيو تتعقّب الجميع.
ترى الكاتبة في روايتها أن مرض ابنها في حركة ارتدادية، هو حصيلة ما مرّ بها في طفولتها فتروح تروي لزياد الغائب/ الحاضر، وبما يشبه عملية تعذيب الذات كل الأحداث القديمة التي ربما تُلهيها عن شعورها بالخجل لأنها لم تلحظ أعراض مرض ابنها باكراً، كعصبيته التي وسمت تصرفاته، وإهماله المذاكرة وجرّه رجليه جرّاً على البلاط، مرجعة ما طرأ عليه من جديد الى عبوره داخل حلقات المراهقة. ألهتها أحداث الثورة فلم تستنتج من اختلاج الجانب الأيسر لابنها أن شيئاً خبيثاً يتسرّب إليه. أجزاء من ماضيها، أهلها، أمها، أخوتها الأشقاء وأولئك غير الأشقاء، علاقتها بالرجل الذي تخلى عنها، السبب الذي دفعها للزواج بوالده، نقص الدفء في علاقتها بأمها، نظرتها الى نفسها والى رغبتها في التغيير، ووصفها لكيفية دخولها عالم الإنترنت محققة ذاتها ككاتبة وقاصة.
تبدأ معاناة الكاتبة (على خلاف كل ما عانته قبل ذلك) لحظة كتابة تقرير الأشعة: كيس ينمو على جذع المخ!! لتبدأ الكتابة الملهمة والمؤثرة والبارعة والرشيقة في حالة استدعاء دائم للذكريات علّ الذكريات تُلهي عن الراهن المؤلم المقيم. الكاتبة التي درست علم النفس، وظّفت كل تعثّر صادفته في حياتها طفلةً وصبيةً وأماً كمعين لها على التعثّر الأكبر في انطفاء ابنها من دون أمل بالنجاة.
الصدق، البوح حتى منتهاه، صفة السرد الجريء غير المراوغ والمشغول بحرفية عالية وهي تقول في هذا الشأن: عادة أكتب قصصي في جو مليء بالفوضى عكس ما أذكر في حواراتي التي نشرت في الجرائد عن طقس الكتابة، فكل قصصي كتبت والصحون مكدّسة في الحوض والغرف جميعها مشحونة بالفوضى.
على قدر الألم، كانت القصص وفيرة في رواية الشيمي، وكان التداعي وكانت الذاكرة الوفيرة. الألم كبير وعلى قدره قرأنا هذا الكمّ الهائل من الذكريات التي هي في الواقع مراوغات الكاتبة (الوجدانية والإنسانية والفنية) لتأجيل الموت (موت الفتى بمرض السرطان) وأحسب أن الكاتبة لو تُركت تروي لخطّت مجلدات ضخمة.
بعض المقاطع المنتقاة من الرواية، تعرض الى أحوال مصر، والى الثورة في بداياتها والى حكم مبارك في اسقاطات على عائلة بسيطة الحال والمورد مهددّة بفقدان ابنها، وضلوع الكاتبة وحماستها في تتبع مجريات الأحداث.
سرد في ظاهره هادىء، رغم اكتنازه قلقاً وجودياً داخلياً، لكنه سرد يتقدّم مرفوع الرأس ولا تعوزه الجرأة على كل حال في استعادات لمشاهد على علاقة بالحب في حالتيه الروحية والجسدية، كما لو الصدق المعتمد والسّيال على لسان الكاتبة الذي وعدت به ابنها، أرادت منه بطبيعة الحال أن يُدرك القارىء أيضاً، فيقف هذا الأخير على أدقّ الأسرار والتفاصيل التي استدعتها الذاكرة الهاربة من وطأة الحاضر كما لو تؤجل موت الشاب.
حتى أنه ما من شيء مقدّس عند الكاتبة، فالسرد يقتحم تابوهات كثيرة منها علاقتنا بأمهاتنا التي من المفترض ان تبدو من دون شائبة، أو العلاقة بالأطباء الذين ينقذون ارواحنا، أو مع أشقائنا وأخيراً مع من في أيديهم بعض مصائرنا كبشر.
الشيمي تطرح عبر الكلمة (وإن بشكل غير مباشر) إيماناً ودعوة للقارىء أينما كان كي يسعى الى تغيير حياته والثورة عليها في حال عقمها، تفعل ذلك في بناء هرمي من المرويات التي لا تطلقها اعتباطاً، بل بعزيمة وإرادة... وحب لامتناه بالضرورة، حب الكتابة أولاً، الذي يتفوّق على حب الأبناء أحياناً.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث