الخميس 2014/06/19

آخر تحديث: 11:34 (بيروت)

أخي أحمد، السياسة ليست برلماناً

الخميس 2014/06/19
أخي أحمد، السياسة ليست برلماناً
من الاحتفالات بانتخاب عبد الفتاح السيسي رئيساً لمصر (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease

أخي في الوطن، أحمد ناجي

شيئان لا يمكن الهروب منهما: السياسة والدموع.

أعلم –أعزك الله- أني لستُ بيورتانياً يحتقر السياسة، ولا أعمل –حاشا لله- في مجال التنمية البشرية حتي يتآمر الكون في خدمة ابتسامتي بغض النظر عما يحدث حولي، ولا أنا علماني يجلس علي مصطبة العلم وينادي بقتل المخالفين الجهلة مستنداً على بخار يضمحل. وما رأيته تضييقاً من جانبنا في رسم حدود المجال السياسي، كان يسير في الاتجاه المعاكس تماماً.

ما كنت أنحو إليه في مقالي بعنوان: المعركة الثقافيّة المصريّة  والذي رددت عليه أنت بمقالك المعنون: أخي مينا، الثقافة ليست حظيرة، هو أن أضع المعركة الثقافية والاجتماعية في قلب مفهوم السياسة والكفاح الديموقراطي. ومهاجمة الاستسلام الحادث بسبب تصور، وإن كان لاشعورياً، أن السياسة هي فقط مطالبة بحق الشهداء وإعدام الأشرار وانتصار الأخيار، تاركين الهمّ الأكبر والأكثر ضرورة لأي تغيير كان، وهو الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة واليوميّة، إلى هرائه الراكد والعميق.

بالطبع، أنا مع خوض كل عمليّة سياسيّة مباشرة، حتى لو أدارتها الأوليجارشيّة، وأنا مع نظرية أن نكمل العوم رغم ركوبهم الفلايك. لكن أليست محاربة قهر المرأة، سياسة، كصراع قوى مع السُلطة الذكوريّة؟ ومعركة التعليم وأنظمته، سياسة، كصراع مع سُلطة المعرفة في تشكيل العقول الفردية والجمعيّة؟ ومعركة ترحيل طبقات غير قادرة من مناطقها ومنازلها بشكل ممنهج ومتصاعد، سياسة، كصراع مع السُلطة الاقتصادية لفرض إرادتها؟ ووجود المجتمع المدني والمنصات الثقافيّة المستقلة التي يتم التضييق عليهما باستمرار وبشكل فج، سياسة، كصراع حول فرض أفكار مغايرة تؤثر في القرارات العامة؟ وحلّ وزارة الإعلام (وهو ما تم) والثقافة، سياسة، كصراع تشكيل دور الدولة وحدودها؟ والصراع على المجال العام بكل ما يعنيه ويحوطه، سياسة، ضد تشكيل السُلطة لملامحه وحدوده؟ بل وحتى الحق في السعادة كما يذهب هنري لوفيفر، سياسة، كصراع مع سلطة المدينة والتخطيط الرأسي؟

لكن أعلم أن ما حدث هو أن الديموقراطيين وجدوا أنفسهم، من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فأُغشِيوا فهم لا يبصرون. وهي نتيجة متوقعة سلفاً، منذ عامين على الأقل. لماذا؟ الدموع، أخي أحمد.

كأي طالب في مدرسة للصبيان فقط، يعرف أن تعداد المهاجمين ومحاصرتهم لك، يعني أن عليك أن تسند ظهرك إلى هذا السد وترفع حجراً كبيراً تضرب به من يقترب. وكثيراً، رأيت المشهد الحزين لصبي يتمرغ باكياً في التراب والآخرون يركلونه من كل ناحية. هكذا أراهم، أخي في الاسم، بكاء هيستيري لأقل إيماءة من الراعي، وتمرّغ يثير الشفقة.

دعني أسألك، ماذا لو حزنا، من فم الوحوش، في قصة جميلة ما قبل النوم، غالبية مقاعد البرلمان، بعد ثلاثة أشهر؟ في رأيي، لن نحصل على الكثير. ليس فقط لوجود الراعي ذي الظهير الخليجي، وليس فقط بسبب إعادة تأسيس لجنة الإصلاح التشريعي الناصريّة، وليس لأن توازنات القوى الهيكلية في كفّتهم بشكل ساحق. لكن بسبب ما أشرت إليه في مقالي السابق: "لأن أي إصلاح، ثوري أو تدريجي، لا بدّ له من ظهير إجتماعي يدعمه ويعطيه قوامه على شكل مصالح ضاغطة على السلطة، أو لتغييرها". وهو ما أظن نصر حامد –رحمة الله- عناه بنقده للتنوير الدولتي التسعيني، في مقاله الطويل في "أخبار الأدب". فهو يفند الأصول الوسطيّة من حركة التنوير والنهضة العربيّة، ويهاجم الحركة التنويرية لمضمونها المجثوث والقشري والتافه كأداة في يد السلطة لمحاربة الإرهاب بجانب قوة السلاح. لماذا كان هذا التنوير زائفاً وتافهاً إلى هذا الحد؟ لأنه بالضبط كان ضمن حدود ما ترسمه الدولة لنفسها وللمجتمع. أي بمعني آخر، غير ديموقراطي.

بالطبع كراهية الديموقراطية كانت موجودة منذ بائد الذكر مبارك. وبالطبع هي درّة الخطاب الإعلامي الذي تتسيده توجهات "الأوليغارشيّة" المسيطرة. وهو ما عنيته بالممارسة العفويّة لكل حكومة/سلطة، أن تنحو إلى تضييق المجال العام، وإلى جعله شأنها الخاص، وبذلك تنمو الكراهية للديموقراطية بما هي سيرورة النضال (الاجتماعي والثقافي والسياسي)، ضد تلك الخصخصة بالذات. ليس الأمر مجرد عاطفة، بل قوة مُحرِّكة تغلق وتفتح هذا المجال.

تأمّل حين فتحته، في يناير 2011، التعبير الأكثر سذاجة ومباشرة، للديموقراطية، بمسح الشوارع وتنظيف الأرصفة وتلوين الأشجار، والجدالات العنيفة في الشوارع والمقاهي والندوات. وتأمّل حين أغلقته في 30 يونيو على الأخوان، ومآلات الديموقرطيّة بلا راع، الرقم المهول الذي خرج في الشوارع وما تلاه من وقائع.

هي ليست مجرد عاطفة. بل قوة جبارة تدخل بين السدّين من أمامك ومن وخلفك، وتلطمك بشدة منتظرة لحظة الغشيان. إعلم أخي الكريم أني أمسح الدموع بيُسراي، وأمسك الحجر بيمناي، وأنتظر.

increase حجم الخط decrease