الثلاثاء 2014/06/10

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

المعركة الثقافية المصرية

الثلاثاء 2014/06/10
المعركة الثقافية المصرية
تجد الجريمة الديموقراطية أصلها في مشهد بدائي (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease

كراهية الربيع العربي أصبحت بالمعنى الأبعد لها، متماهية مع كراهية أخرى، وهي كراهية الديموقراطية. أحياناً متخفيّة في طرح نظرية المؤامرة بشكل شمولي وأحياناً علنيّة بطرح فكرة استيراد الديموقراطيّة كأداه إمبريالية جديدة أو بشكل أوضح وأكثر مباشرة أن الديموقراطية قاصرة في ذاتها عن استيعاب توازنات اللحظة أو بشكل مطلق لا تناسبنا ثقافياً وحضارياً.

هذه الكراهية بأنواعها وأشكالها تتمثل في ما قاله الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير في كتابه "كراهية الديموقراطية" عن مفهوم الحكم الرشيد المنتشر في بقاع كثيرة من عالم اليوم: "اليوم يعثر الحكم الرشيد من جديد على الاسم الذي كان له قبل أن يعبر طريقه اسم الديموقراطية. اسم الحكم الرعوي. ومن ثم، تجد الجريمة الديموقراطية أصلها في مشهد بدائي، هو نسيان الراعي". فما حدث في مصر بداية العام 2011 من قطيعة في الوعي، قطيعة في لحظة تفجّر المكونات التي أدت إلي هذا الحدث من قتل أب رمزي سياسي، رجع ليواجه بالرغبة في البحث عن أب أو راع جديد، أب حاسم يرجع الأمور إلي نصابها ويحكم بالعدل بين الأبناء ويطرد العاق منهم للحماية من شرور الفوضي، أو الحرية اللامحدودة للديموقراطيّة. وهذه الرغبة تصاحبها، بشكل مزدوج، الممارسة العفويّة لكل حكومة أن تنحو إلي تضييق هذا المجال العام، إلى جعله شأنها الخاص. وبذلك تنمو الكراهية للديموقراطية بما هي سيرورة النضال ضد تلك الخصخصة، سيرورة توسيع هذا المجال ضد السيطرة المزدوجة للأوليغارشيّة (العسكريّة والاقتصاديّة في هذه الحالة) في الدولة وفي المجتمع. هذا الازدواج وتلك الكراهية يرجعان حتى أفلاطون، كما ذهب كارل بوبر، الفيلسوف النمساوي. فأفلاطون يرى الديموقراطية كحكم الحريّة التي تعني عدم الخضوع للقانون، ويأتي بعدها، زمنياً ومنطقياً، الحكم الاستبدادي. نسخة سيئة وباهتة لحكم الراعي الذي يراه أفلاطون "مثال" الحكم الصحيح، فهو يرى أن رجل الدولة ينبغي أن يكون طبيباً، منقذاً، معالجاً مفارقاً في قدراته وصلاحياته عن قطيع الأفراد المحكومين.

من المسلّم به أن أي إصلاح، ثوري أو تدريجي، لا بدّ له من ظهير إجتماعي يدعمه ويعطيه قوامه على شكل مصالح ضاغطة على السلطة، أو على تغييرها. ولأن من تسلّم راية الديموقراطية والإصلاح بظهيرة الاجتماعي ذي البنيّة الطائفيّة أي الإسلام السياسي، فشل لأسباب عديدة بنيويّة ونخبويّة وإيديولوجيّة، أصبح ذلك الفشل لطمة تلطيخ اسم الديموقراطيّة، أي تصرّف الأخوة دون أب/راع في شؤون حكمهم، على وجه من يسعوا إلى دولة ومجتمع أكثر انفتاحاً ونضجاً وتطوراً ويفتقدون قاعدة شعبية اجتماعيّة من أجل هذه المهمة، بسبب التواجد في بيئة تم هندستها لتحمل في طياتها كل أنواع التطرف وصور الحداثة، بمفهوم تنويري تم تدجينه ونزع أي جذريّة فيه، لا يلقي الضوء على مواضع الفساد (الفكري والمادي) التي تؤدي إلى التطرّف والرجعيّة، بل مجرد أشكال ومقولات صوريّة تسبح في بحر الوسطيّة الفاشلة.


ويقول المفكر المصري، نصر حامد أبو زيد، عن التنوير التسعيني من القرن الماضي الذي يستعيد شكله الآن بشكل أكثر بهتاناً: "صار مفهوم التنوير في الخطاب العربي السائد فاقدا لمضمونه لأنه تم توظيفه توظيفًا إيديولوجياً براجماتياً في سياق محاربة "الإرهاب" بسلاح الأمن وحده، وثباً على آليات التحليل العلمي العميق لنشأة الإرهاب". ويكون وسيط ذلك التنوير المزوَّر والمزوِّر، هو تمسك المؤسسات الحكوميّة بالهيمنة الثقافيّة، ممَثلةً أساساً في وزارتي الثقافة والإعلام. وفي الوقت نفسه، ترك الأمر لفشل الفساد والترهل في آن، الفشل الذي حاولت المؤسسات الثقافيّة المستقلة ضمن إطار أشمل من المجتمع المدني تخطيه، وإن واجهت صعوبات داخلية كثيرة تدور حول توجهاتها وآلياتها وعلاقتها بالواقع المأزوم، وخارجية من تضييقات من جانب الدولة التي ترجع صدى "كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي" - مقولة غوبلز الشهيرة، والتي ربما جاءت في سياق معنى الحرية الديموقراطية التي تدعو إلى المساواة، والتي تتضارب مع الهندسة الثقافيّة والعرقيّة النازيّة لتهيئة المواطنين الآريين لمهامهم التاريخيّة، ما يتشابه حين انبري أحدهم يذكر كاتباً يدافع عن المؤسسات الثقافية المستقلة في مصر بأنه "في التسعينات كشفت الإندبندنت عن دور مؤسسة فورد والاستخبارات الأميركية في ترويج اتجاهات وأنواع معينة من الفن إبان الحرب الباردة. اكتشف محرّرو مجلة "شعر" اللبنانية مثلاً بأنهم جزء من مخطط حقيقي لإزاحة الشعر الوطني والثوري وما إلى ذلك لصالح اتجاهات ما بعد حداثية أقل جماهيرية وأكثر ذاتية وغموضا".

وبهذا المعنى الثقافة خطر على أمن الدولة والمجتمع، ولذا لزم التضييق علي المؤسسات الثقافية والمعرفيّة المستقلة - كما الحكومية مثل وزارة الثقافة والإعلام ومراكز البحوث وهيئات الوثائق وغيرها- من مؤسسات ومنافذ ثقافية واجتماعية ومواقع التواصل الإجتماعي التي تشكل جزءاً رئيسياً من المجتمع المدني، ما يخنق أي مساع تقدميّة وليبراليّة تتحدي الحدود الاجتماعية والسياسيّة القائمة. ويبقى أن نلاحظ أن مفهوم العمل، في الخطاب الدعائي الرئاسي، كان يعمل كسلاح للصمت، كسلاح لقتل الاختلاف، الذي يمثله حراك يستطيع بلورة الأفكار وتمثيلها خارج الخطط الموضوعة من قِبل السلطة، والتي، رغم تعدد الأسباب، يبقى لها شكل سلطوي في إخفائها.


يغلق المجال السياسي، بصورة كبيرة نسبياً، بوصول الراعي، يبقى المجال الاجتماعي والثقافي ممثلاً في حق المدينة وحق المجال العام وحق المعرفة، مفتوحاً كمجال للصراع. وتبقى عناصر ومناطق تنتظر أن يتم العمل عليها. فلا تتعاظم الرؤية بالدموع بل تتشوه، ومرارة الهزيمة في الحلق تجعل أي طعام غير سائغ. وفي دأب المعركة، الرؤية والإمداد هما سبيلا مواصلة ما بدأ رغماً عن الجميع.

increase حجم الخط decrease