الجمعة 2017/02/10

آخر تحديث: 07:15 (بيروت)

القصير كما تبدو اليوم

الجمعة 2017/02/10
القصير كما تبدو اليوم
كافة النواحي والقرى الواقعة غربي نهر العاصي هي تحت سيطرة مليشيا "حزب الله" (انترنت)
increase حجم الخط decrease
في رحلته إلى بلدة القصير، سلك فريق تلفزيون "الجديد" اللبناني، في كانون الثاني/يناير، الطريق من معبر فاطمة على الحدود اللبنانية السورية، مروراً بعشرة حواجز عسكرية للمخابرات السورية. كان أعضاء الفريق يستخدمون هويات غير هوياتهم، ويجيبون على سؤال الغرض من دخول الأراضي السورية بزيارة الأقارب في بلدة الديابية الشيعية، في قضاء القصير. التصوير ممنوع. لذلك كانت كاميرا الفريق مخفية وهي تصور كل شيء، من وجوه عناصر الأمن إلى أسئلتهم إلى تهاونهم مع العابرين على أسس الانتماء المذهبي، إلى الإتاوات التي يطلبونها بنبرة أقرب إلى الاستجداء.

على مدخل بلدة القصير ثمة حاجز للمخابرات العسكرية السورية. تدقيق شديد على الداخلين وتنبيهات أقرب إلى التهديد لمن يُسمح لهم بالدخول. الاقتراب من الحارات الشمالية والجنوبية والغربية محظور.

تقع بلدة القصير في الريف الجنوبي الغربي لحمص. وكانت تعد من المناطق المتنوعة بتكوين نسيجها الاجتماعي. قبل العام 2011 بلغ تعدادها السكاني نحواً من 40 ألفاً، بأغلبية مسلمة سنيّة، وفيها أقليات من الطوائف المسيحيّة والعلوية والمرشدية. هذا التنوع، بما فيه من توفر حاضنة بشرية كبيرة للثورة، مع الموقع الاستراتيجي الحساس، سيؤثر جذرياً على سيرورة الأحداث في القصير، منذ اندلاع شرارة الثورة في سوريا في آذار/مارس 2011. محاذاة القصير للحدود اللبنانية، وامتداد ريفها شمالاً إلى تخوم حي بابا عمرو الحمصي الشهير، جعلها الشريان الرئيس لحمص، لجلب الدعم اللوجستي من دواء وإغاثة وأجهزة اتصالات، ثم لجلب السلاح والذخيرة مع تحول الثورة إلى مرحلة العمل المسلح. فكان طبيعياً والحالة هذه أن يركز النظام على إخضاع القصير كمقدمة لخنق الثورة في حمص ومحاصرتها بالكامل. أما بالنسبة لمليشيا "حزب الله" اللبناني، فقد كانت البلدة معركته الأولى اللازمة للانخراط في الصراع العسكري في سوريا.

بعد سقوط بابا عمرو في أواخر شباط 2012، وتجمع ثوارها في القصير، بدأ المجهود العسكري لقوات النظام ومليشياته الحليفة يتركز على البلدة الحدودية. ومع الشهور الأولى من العام 2013، بدأت المعارك بمشاركة كبيرة من مليشيا "حزب الله". وبعد شهور من القصف الجوي والمدفعي المركز سقطت البلدة في 5 حزيران/يونيو 2013.

لا شيء يبدو اليوم مختلفاً. فبعد قرابة أربع سنوات من سقوطها، تبقى الصورة الجوية للبلدة على حالها. دمار كامل بنسبة 90 في المئة لمعظم أحيائها التي تقع غربي سكة الحديد؛ خط الجبهة الساخن في مرحلة المعارك الدامية. بينما في شرقها حيث الحارة الشرقية، أو "المربع الأمني" كما كانت تُسمى، بسبب تمركز مليشيات النظام فيها، يوجد عدد من المدنيين لا يتجاوز بضع مئات أكثرهم من الموظفين والمستخدمين.

وكان النظام من خلال "لجنة المصالحة" قد أعلن إجراء "مصالحة وطنية" وإعادة الأهالي المهجرين. وقامت اللجنة، ومن بين أعضائها مسؤول "حزب البعث" في القصير، بالتواصل مع الأهالي المهجرين في بلدة حسياء القريبة وفي مخيمات عرسال في لبنان. كما تمّ إرسال العضو في مليشيا "الدفاع الوطني" صباح كاسوحة، إلى ألمانيا لإجراء المصالحة هناك مع مهجرين من أبناء القصير. وبقي هذا المسعى مجرد دعاية للاستهلاك الإعلامي. فالحافلات التي قدمت بالأهالي من حسياء برعاية "لجنة المصالحة" أعيدت ومنعت من الدخول، من قبل شبيحة آل كاسوحة في تشرين الأول/أوكتوبر 2013. وتكرر المشهد في بداية العام 2014. ليظهر أن تصريح بشار الأسد حول التخلص من شرائح سورية غير مرغوب بها، هو إشارة إلى المُهجّرين، هو المسعى الرسمي الحقيقي وإن كان غير معلن.

أغلب البلدة، الحارات الشمالية والجنوبية والغربية وهي في معظمها خرائب وأطلال، منطقة عسكرية يمنع دخولها. سيدة مقيمة في الحارة الشرقية، أكدت أنها لم تستطع تفقد بيتها في الحارة الغربية، حتى اليوم. وحول حياة المقيمين يذكر أبو محمد، بحرقة، البطالة والاعتماد على المعونات المقدمة من منظمات "الهلال الأحمر" و"الأمم المتحدة". ويتابع قائلاً: "كانت منطقة القصير الخضراء من متنزهات محافظة حمص، ومن أخصب الأراضي وأكثرها تزويداً للسوق السورية بالخضروات والمحاصيل المتنوعة. اليوم هناك تخريب هائل الله وحده يعلم كيف يمكن معالجته. فالأشجار قد قُطعت بالكامل تقريباً من قبل الميليشيات وتم بيعها والمضخات ومولدات الكهرباء الكثيرة التي كانت تستخدم للسقاية نهبت".

شبكات المياه والكهرباء مُدمرة. وعلى الرغم من أن مؤسسة مياه عين التنور ما تزال عاملة، فالتزود بالمياه في الحارة الشرقية يتم بواسطة الصهاريج التي يمكن مشاهدتها بكثرة.

وبسبب انتشار مجموعات "الدفاع الوطني" المسلحة فإن الاشتباكات واستعمال السلاح أمر يومي، كما حدث مؤخراً من خلاف بين عناصر منها مع مدير محطة محروقات الشعلة حول توزيع حصص مادة المازوت.

لكن الخلافات الأخطر كانت بين قوات النظام ومليشيا "حزب الله"، فقد دأب عناصر الحزب على التدخل في شؤون بلدة القصير ما سبب اشتباكات متكررة مع حواجز المخابرات السورية. حتى تم التوصل إلى تفاهم يجعل من كافة النواحي والقرى الواقعة غربي نهر العاصي مثل البرهانية وسقرجة وزيتا والبجاجية والمصرية وأكوم وأبو حوري والموج تحت سيطرة وإدارة "حزب الله". وكان الحزب قد أجرى في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 استعراضاً عسكرياً بالسلاح الثقيل في مناطق القصير بعدما تحول غربها إلى ما يشبه مراكز عسكرية ومعسكرات تدريب ومستودعات لا يمكن الاقتراب منها. في المقابل تقوم عناصر مكلفة من قبله بعمليات واسعة لشراء الأراضي والعقارات في بلدة القصير وريفها المحيط. وتفيد بعض التسريبات أن طريقاً خاصاً قد تم شقه من بلدة النبي شيت في البقاع اللبناني عبر جرود القلمون إلى العمق السوري، وأن عمليات الشراء التي تتم أحياناً كثيرة بالتهديد والابتزاز يجري تمويلها بأموال إيرانية.

وغير بعيد عن بلدة القصير مطار الضبعة العسكري الذي نجح الثوار في بداية العام 2013 بالسيطرة عليه، والذي تمكنت مليشيات النظام من استرجاعه بعد تدميره. ويقوم الروس بإعادة تأهيله. وهو اليوم يستخدم للطيران العمودي فقط، بالإضافة إلى استخدامه كقاعدة للصواريخ والمدفعية الثقيلة التي تستهدف أرياف حمص البعيدة الخارجة عن سيطرة النظام.

 القصير اليوم تبدو صورة مصغرة عن صورة سوريا الثورة، التي تحولت مناطقها إلى خرائب مهجورة تضج بآلاف القصص والحكايا عن الحصار والموت والجوع والنزوح. وبينما يرنو إليها النازحون والمهجرون، في حسياء وفي عرسال، بحسرة وألم، يبقى فرقاء آخرون مستمرين في مشاريع ليس فيها شيء من أهداف إعادة إعمار أو إعادة المهجرين، وكأنهم في سباق محموم مع الزمن ليفرض كل منهم خريطة جديدة لأوضاع جديدة تحقق مصالحه على حساب أصحاب الأرض، بل وعلى حساب حلفاء اليوم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها