السبت 2016/12/03

آخر تحديث: 13:01 (بيروت)

"ثوار سوريا": بين زكور وأبو الحارث الخالدي

السبت 2016/12/03
"ثوار سوريا": بين زكور وأبو الحارث الخالدي
لابد للنظام للقضاء على الثورة السورية من تحقيق أكبر استغلال لمبدأ "محاربة الإرهاب" (انترنت)
increase حجم الخط decrease
في أواخر العام 2011، بعدما قطعت الثورة شهوراً من العمل المسلح، اجتمع بعض الشباب من أحد أحياء حمص للتشاور. الموضوع كان باختصار: السلاح، وكيفية تأمينه للدفاع عن الحي.

حينها أخذ أكبر الحاضرين سناً وعلماً، يستعرض الجهات التي يمكن أن تساعد، وبدأ بـ"الإخوان المسلمين"، فقاطعه زكور وهو أحد الشبان الحاضرين، بتمجيد "الإخوان" وصبرهم وجهادهم في الثمانينيات. فطلب الحاضرون من زكور الصمت، ليستأنف المتحدث كلامه مشيراً إلى أن جهات خليجية تفضل تقديم دعم لأصحاب التوجهات السلفية، فلم يتمالك زكور نفسه ليقاطع الكلام مجدداً، متحدثاً عن عمق الإيمان السلفي وتقدمه على جميع المسلمين. هذه المرة نهر الحضور زكور ليسكت، فتابع المُتحدث استعراضه إمكانيات العلمانيين الذين تتعامل الدول الكبرى معهم من دون غيرهم. ومجددا صرخ زكور، متسائلاً باستياء عن التافه الذي يمكن له أن يشكك في إيمان العلمانيين الذين هم الأقرب إلى الدين بما يقوموا به في سبيل وطنهم.

لم تكن تلك نكتة. حدث ذلك في أواخر العام 2011، ولم يكن زكور ولا الحاضرين في معرض المزاح في تلك الأيام العصيبة التي يشرف فيها نصف مدينة حمص الثائرة على الغياب ونصفها الآخر على الحصار. وبقيت تلك الواقعة للذكرى عند من بقي حياً من ذلك الاجتماع، وعند قلة منهم للتأمل وتوقع مسارات غريبة مقبلة للثورة.

حين اندلعت ثورة سوريا بالتظاهرات الاحتجاجية في مارس/ آذار 2011 هتفت غالبية السوريين للحرية. القلة كانت من المؤيدين، كما كان الإسلاميون قلة على ضآلة نسبتهم في المجتمع السوري بعامة. فما الذي حدث؟

مع ارتفاع أعداد قتلى التظاهرات السلمية برصاص قوات الأمن و"الشبيحة"، تصاعد الغضب، ما رتب استعداداً نفسياً عند كثير من السوريين لإسقاط النظام بالقوة. وضاعف في ذلك حالة التردد الدولي والإقليمي والاكتفاء ببيانات الشجب والتنديد كردّ على مذابح النظام اليومية. فهل هذا كل شيء لانتقال الثورة من طور السلمية إلى العسكرة؟

من شخصيات حصار حمص، الممتد من يونيو/حزيران 2012 وحتى مايو/أيار 2014، الشيخ أبو الحارث الخالدي، الذي بثت قنوات النظام الإعلامية مقاطع من خطبه التي كان يقرع فيها قادة المجموعات والشرعيين ويحملهم مسؤولية ما آلت إليه أوضاع حمص المحاصرة من تردٍ. والخالدي شاب من مدينة حمص في الثلاثينيات من عمره، يحمل إجازة في الشريعة من جامعة الأزهر، وكان قد اعتقل في العام 2007 من قبل مخابرات النظام على خلفية تهم بانتمائه إلى مجموعات سلفية جهادية واشتراكه في أحداث نهر البارد في لبنان.

مكث أبو الحارث معتقلاً في سجون المخابرات لأكثر من سنة، أُحيل بعدها إلى سجن صيدنايا حيث كان هناك آلاف المعتقلين الإسلاميين، أكثرهم من التيارات الجهادية. يقول أبو الحارث: "كنا نتوقع مصيراً مشابهاً لمعتقلي مطلع عقد الثمانينيات الإخوانيين. لذلك كانت دهشتنا هائلة حين أُطلق سراح مئات منا في أكتوبر/تشرين الأول 2011، لتتحول إلى ما يشبه الصدمة حين خرجنا لنعرف أن مراسيم العفو الرئاسية قد اتسعت لتشملنا وضاقت على المعتقلين من نشطاء ومتظاهرين سلميين ينادون بالحرية". ويتابع بنبرة يشوبها الأسى: "الآن، بات الأمر واضحاً جداً: هدفان أرادهما النظام؛ أسلمة الثورة وتسليحها، ليجهز عليها بالأسلوب نفسه الذي اتبعه في حماة 1982".

الأمر مفهوم وتؤيده وقائع لا حصر لها. فلابد للنظام للقضاء على الثورة السورية من تحقيق أكبر استغلال لمبدأ "محاربة الإرهاب". لكن المجتمع السوري بطبيعته لا يتقبل تيارات وأفكاراً متشددة، لاسيما في مجال الدين وتطبيقاته السياسية. فطوال الفترة منذ عسكرة الثورة المبكرة والمحدودة في يوليو/تموز 2011، وحتى أبريل/نيسان 2012 تاريخ بدء "اللجنة الدولية" مهامها في سوريا، كان التشكيل المعارض الوحيد المسلح في سوريا عموماً وفي حمص خصوصاً هو "كتائب الفاروق" التي كانت المظاهر الإسلامية فيها محدودة جداً تُقابل باستهجان من الشارع ومن الثوار أنفسهم. إلا أن هذا لن يطول. فالخذلان الإقليمي والدولي الذي انعكس ضعفاً على تشكيل الجيش السوري الحر الوليد ويأساً وقنوطاً على نفسية المعارضين الذين أوصلهم بطش النظام إلى حرب حياة أو موت.

يُضاف إلى ذلك أن جهات رسمية وشبه رسمية وحتى أهلية خاصة نزلت ميدان الدعم وراح تجزل في تقديمه لكل تشكيل يتبنى فكراً جهادياً أو إسلامياً بالعموم. ومن الطبيعي كنتيجة ذلك أن ينهار تشكيل "كتائب الفاروق" بانشقاق مجموعاته وأفراده على التوالي، لتجري إعادة تجميع وتأسيس لمجموعات إسلامية، كما حدث في الجزء الخارج عن سيطرة النظام في حمص عشية الحصار من تشكيل "كتيبة الأنصار" القوية و"أتباع الرسول" و"أهل الأثر"، بعد سقوط بابا عمرو في أواخر فبراير/شباط 2012. ثم تكرس ذلك في يوليو/تموز 2012 بالإعلان عن تشكيل "لواء الحق" الأقوى في حمص المحاصرة، من تجمع للكتائب والمجموعات الإسلامية، ليكون ذلك، مع الإعلان عن تشكيل "جبهة النصرة لأهل الشام" في عموم سوريا، مدخلاً تأسيسياً وتنظيمياً لمرحلة سمتها العامة أسلمة الثورة.

بالنسبة لزكور الذي قضى على مداخل الحي وهو يصد دبابات النظام ببندقية مذخرة ببضع طلقات، كما بالنسبة للشريحة الأكبر من المقاتلين، كان خيار الانضمام إلى تشكيلات جهادية وإسلامية محدثة ضرورة عملية لاستمرار الحرب. فالدعم الذي تلقته تلك التشكيلات كان من الضخامة بما لا تصح مقارنته مع هزال وضعف إمكانيات الجيش الحر. هناك من اشتغل طويلاً على هذا، هناك من فتح المعابر وجمع الجهاديين، لاسيما الأمراء والشرعيين والمنظرين منهم، ونظم دخولهم إلى سوريا، كما أن هناك من فتح أبواب سجونه ليخرج أمثال هؤلاء.

بقية من مشهد أثير في فترة متأخرة من حصار حمص، كان فيها الشيخ السلفي الجهادي أبو الحارث، يصرخ في الشارع معنفاً شرعياً قال إن "الدولة الإسلامية" هدف لثورة سوريا. حينها، كان وجه "عزيز" لوحة فسيفسائية من ذهول كامل، وهو المواطن السوري المسيحي، يسمع الحديث، بعدما فُرض عليه الحصار لأن بيته ضمن المناطق المحاصرة.

أبو الحارث قال: "لا إسلام إلا في القلب، أما هنا فثورة نقوم بها نحن السوريين ومن أجل كل السوريين مسلمين وغير مسلمين"، قول كهذا كان أقرب ما يكون إلى الكفر في تلك المرحلة. وحين تشكلت "لجنة تفاوض" مع النظام والممثل الإيراني، كان أبو الحارث عضواً فيها، حتى إذا أُخرج الثوار من مدينة حمص إلى ريفها الشمالي كان معهم ليغادر بعد أيام إلى تركيا فألمانيا منسحباً إثر تجربة إسلامية مخزية في سوريا.

مع الأيام والشهور، عاد علم الاستقلال السوري الأثير عند السوريين، للظهور، بعدما حُجر عليه واعتبر منكراً طوال فترة تحكم المجموعات الإسلامية التي كانت آخر حلقاتها فك "جبهة النصرة" ارتباطها مع تنظيم "القاعدة". قد نكون على مشارف مرحلة جديدة. لكن من المؤكد أن تأثير المجتمع السوري ما يزال فاعلاً بحكم طبيعته التي لا تحتمل الإفراط في أسلمة السياسة ولا في تسييس الإسلام.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها