السبت 2016/11/19

آخر تحديث: 08:50 (بيروت)

الثورة السورية وظاهرة الشطار والعيارين

السبت 2016/11/19
الثورة السورية وظاهرة الشطار والعيارين
لا شيء يبدو مختلفاً مع دخول قوات النظام في حزيران/يونيو 2011، إلى "ربض" البياضة في حمص (انترنت)
increase حجم الخط decrease
تزخر كتب التاريخ والأدب العربية القديمة، وتحفل القصص الشعبية مثل "دليلة والزيبق" و"حسن رأس الغول" وغيرها، بأخبار وحكايات الشطار والعيّارين. فهي تسرد أعمالاً من سلب وعنف وقلاقل، كما تسرد وقائعهم الملحمية في الدفاع عن مدنهم. كما حدث في بغداد القرن التاسع الميلادي، إبان الحرب بين الأمين والمأمون، ابناء هارون الرشيد العباسي، حين حاصرها جيش من الفرس يتبع للمأمون، فلاقى من أبنائها، من شطار وعيّارين، الويلات.

وينطوي نمط المدينة القديمة، وفي مقدمها العربية الإسلامية، في العصور الوسطى، على هيكل اجتماعي سياسي، يقوم على فرز واضح المعالم. ففي قمة الهرم يستقر الحاكم وحاشيته وكبار قادة الجيش والموظفين، مع رجال الدين المقربين من أصحاب الحظوة والنفوذ، وكبار التجار، ثم الفئات المتوسطة من صغار التجار وأرباب المهن والحرف الذين يحتلون في الهيكل وسط الهرم، وما دونه يصبح غارقاً في بحر مظلم لا قرار له من فئات وشرائح من المهمشين والمعدمين والمهاجرين الفقراء من الأرياف والبوادي. ويزداد البؤس والعوز والتهميش أكثر مع الاقتراب من قاعدة الهرم. ويتوافق ترتيب المدينة العمراني، مع واقعها الاجتماعي؛ ففيها أحياء "أصيلة" تقع داخل سورها، وأحياء جديدة كانت تُسمى بالأرباض وهي جمع ربض، نشأت خارج السور من تدفق المهاجرين ومن فقراء الأحياء القديمة.

والشطار والعيّارون، في التاريخ العربي والإسلامي، هم شباب من الفئات الوسطى في الهرم، فما دون. ظاهرة اجتماعية مدينية، قوامها البشري حشود غفيرة من الشباب العاطل عن العمل من أرباب المهن والحرف المتعطلة لسبب أو لآخر. هم قوة عشوائية تصل أحياء بفعلها إلى الغوغائية، فلا تنظيم حقيقي لها ولا تملك مشروعاً سياسياً. ولعل هذا ما يفسر غرق الهرم كله بانهيار النظام السائد في مدن عظمى، عند أي أزمة تفشل السلطات الحاكمة في معالجتها.

في سنة 818، ثار أهل الأندلس ضد أميرهم الحكم بن هشام الأموي، الذي استخدم العنف المفرط في التعامل مع الأهالي، وصلب المئات من الثائرين، وزج بقوة الجيش لتدمير معاقلهم التي تركزت في الربض الجنوبي لقرطبة الذي سُوي بالتراب. استمرت الثورة لسنوات انتهت بإجلاء آلاف الثائرين وأسرهم وغيرهم ممن خشي الانتقام إن بقي.

لا شيء يبدو مختلفاً مع دخول دبابات وجنود قوات النظام في حزيران/يونيو 2011، إلى "ربض" البياضة في حمص، أكبر أحياء المخالفات والتوسع العشوائي في مدينة حمص. ولا يبدو الأمر مختلفاً أبداً في كل أحياء المدن السورية التي اقتحمتها قوات النظام والمليشيات، وتصدى الشباب لها.

بحسب تقديرات محافظة حمص في العام 2008، تجاوز عدد سكان حي البياضة 60 ألفاً، ومع ذلك بقيت السلطات تتعامل معه كمنطقة مخالفات لا يحق لسكانه التوسع العمراني والبناء تحت طائلة الهدم، وتُرفض كل طلبات جديدة للاستفادة من المياه والكهرباء. هذا في وقت تعد فيه البطالة والفقر والجهل ملامح الحي الكبرى.

لم يكن غريباً والحالة هذه، أن يسارع أهالي الحي إلى المشاركة في الاحتجاج ضد "مشروع أحلام حمص" في تشرين الثاني/نوفمبر 2007. وكانت أحداث خريف 2007 مؤشراً على ما سيحدث لاحقاً. فحين اندلعت الثورة وخرجت أول مظاهرة حاشدة، في مدينة حمص في 25 آذار/مارس 2011، كان أبناء البياضة من أكثر المشاركين فيها. وبعد القمع الرهيب لتلك المظاهرة هدأت أحياء حمص في الجمعة التالية، بينما كان حي البياضة يثور متظاهراً ليسقط في أزقته أولى شهداء الثورة السورية.

عدنان، 22 سنة، من أبناء البياضة، يروي أحوال أهله، عشية اندلاع الثورة بالقول: "كنت عامل بلاط. لم أستطع البقاء في المدرسة لأكثر من الصف السابع. فأسرتنا كبيرة مكونة من ستة إخوة وثلاث أخواتنا نسكن في بيت مكون من أربع غرف. اثنان من إخوتي متزوجان ويشغلان غرفتين كل منهما مع عائلته. وبرغم ضعف دخلنا فقد تدبرنا أمرنا وجمعنا بعض المال لبناء غرفتين على السطح. لكن البلدية هدمتهما بحجة المخالفة. أحد إخوتي انتقل للسكن في ملحق صغير في الحي. لكنه وعلى مدار سنة لم يتوفق في الحصول على الكهرباء أو الماء للحجة ذاتها. حتى قامت الثورة كنت مع جميع إخوتي مشاركين في مظاهراتها. واحد منهم سقط فيها برصاص المخابرات واثنان استشهدا في معارك الدفاع عن الحي حين اقتحمه الجيش والأمن في شباط/ فبراير 2012".

حي بابا عمرو الشهير، في الأساس كان حتى خمسينيات القرن الفائت قرية طالها توسع المدينة لتصبح من مناطق المخالفات. مصطفى، 26 سنة، يقول: "البناء ممنوع في بابا عمرو. لا عمل ولا وظائف لمعظم الشباب. والحل أن يدبر كل أمره بشطارته. لجأت أنا وبعض أقربائي إلى العمل في التهريب. تهريب التبغ، الألبسة، الأجهزة، بل حتى السلاح أحياناً من لبنان عبر مناطق القصير إلى حمص. كما كنا نهرب المازوت إلى لبنان. وذات مرة طاردتنا دورية جمارك، فحدث تبادل إطلاق نار أسفر عن مقتل عنصر وجرح رئيس الدورية. حوادث كان يتكرر وقوعها من حين للآخر، وكنا نعرف كيف نلقن الجمارك والأمن الدرس اللازم".

عدنان ومصطفى، منذ سنوات، صارا في تشكيلات الجيش الحر، واللافت في رواية مصطفى هو التباهي بمقارعة قوات الأمن، كحال شريحة الشطار والعيارين. ولعل في تعلق الشباب الثائر بمسلسلات الفتوة والقبضايات كـ"باب الحارة"، بل وفي تكنية أنفسهم بمسميات شخصياته، ما يوضح ذلك أكثر. وتبقى قيمة الشهادتين في أنهما نموذج واسع لحال شباب سوريا في المناطق المدمرة، ولا سيما مناطق السكن العشوائي التي اندفع شبابها للثورة بوتيرة أعلى من وتيرة شباب الأحياء الميسورة، وصارت في مرحلة الثورة المسلحة المصدر الأكبر للمقاتلين والثوار.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها