السبت 2014/10/25

آخر تحديث: 11:35 (بيروت)

حجر في الحائط

السبت 2014/10/25
حجر في الحائط
increase حجم الخط decrease

حين تسمع كلمة "مدرسة" يتراءى لها تلقائياً اللون الكحلي، فترى المدرسة كلها بهذا اللون الجامد، وهو لون لباسها المدرسي الرسمي، الذي بدأ معه خضوعها هي وزملائها. اذ يجبرون على ارتداء اللباس الموحد، وتصفيف شعرهم بطريقة متطابقة، والكتابة بالقلم نفسه.

ارتدت مرة كنزة صفراء، تحت القميص المدرسي، لا يظهر منها سوى القبة. رمتها الناظرة بنظرة موبخة، وطلبت منها الخروج من الصف والوقوف "على الحيط"، ليشير اليها التلاميذ وهم يهمسون أنها "لم تتقيد بالكوستيم". فالألوان في المدرسة ممنوعة، بل محرمة. تساءلت عن سبب هذا التحريم. هل لأنها جميلة وغير مملة؟ أو لأنها تدل على فرح وغير مظلمة وباهتة؟ الإحتمالات كثيرة، لكن السبب الواضح لتحريمها أنها مختلفة. صاحب القبة الصفراء يختلف عن صاحب القبة الزرقاء. لكن الإختلاف والتمايز ممنوعان ولا مكان لهما أو للفردية ضمن عالم المدرسة. هكذا، تفرض المدرسة رقابة على جسدها وأجساد زملائها، في كل ما يتعلق بالمظهر والحركة. فالجسد يقول الكثير. وفي سياسات القوة الجسد أهم ما يمكن السيطرة عليه.

تبدو القبة الصفراء مثالاً على الخضوع في مراحله البدائية. تتعدد بعدها طرق الإخضاع، كالقصاص وما يشبهه من أساليب لا تهدف لشيء عدا التذكير بقانون التراتبية الذي مضى على وجوده، زمنياً، ما يكفي لجعله أحد قوانين "الطبيعة".


تنهي سنواتها المدرسية وتتحضر للجامعة. تقول "جاء الفرج"، فهي ستختار مجال تخصصها وصفوفها. وبالفعل هذا ما حدث، الى حدٍ ما. لكنها لا تنجو من خيبة الأمل. الصفوف لا تمت لإهتماماتها ومتطلبات سوق العمل بصلة. المقرر التعليمي "مقرر مسبقاً" على أساس نظام وثقافة دولة أخرى، ولا رأي لها بالموضوع. تتنبه الى أهداف الجامعة التجارية فتكتشف سبب كون أكثر من نصف موادها لا تتعلق بإختصاصها، بل انها مجرد مواد "اختيارية" تفرضها الجامعة لزيادة أرباحها. ويتبين لها أن قضاء وقت في مطالعة كتاب سيفيدها أكثر من التزامها الصفوف. لكن للجامعة أولوياتها، والتقيد بحضور الصف يأتي على حساب الإفادة نفسها.

أما الأساتذة فقصة أخرى. شهاداتهم تمنحهم سلطة تقرير ما يحتاجه الطالب، لا بل ما هو "الصواب" أو "الخطأ". هم بالطبع "ديموقراطيون"، يرحبون بالنقاش والتفاعل والإختلاف. لكن القاعدة الأولى المكتوبة بقلم سحري، عندهم، "الصف صفي، والقوانين قوانيني". تعرف جيداً السبيل الأنسب لنيل درجات عالية: تملق الأساتذة وابداء الإعجاب بأفكارهم وتعاليمهم في كل وقت. وان لم تستطع ذلك، فعليها الإكتفاء بعلامات متوسطة.

تسمع ادارة الجامعة وأساتذتها يتحدثون باستمرار عن التغيير والإنفتاح والديموقراطية. غير أنها لا ترى فيهم غير أدوات بيد سلطة، لا يختلفون عنها بشيء. فالمناهج يضعها من في السلطة للترويج لمبادئها. إقصاء الإدارة للطالب في ما يخص وضع المناهج، شكلاً ومضموناً، ما هو الا نموذج مصغر عن اقصاء السلطة للمواطن في مجال صنع القرار. وهذا ما يتم من خلال طريقة التعليم الأكثر انتشاراً، وهي التلقين. ورغم كون بعض المؤسسات التعليمية المحلية تتبع لأنظمة تعليمية أجنبية يفترض أنها تشجع طرق التعليم التفاعلية، الا أن ذلك لا يبعدها عن التوجه التلقيني، اذ هي تتماهى مع النظام السياسي للبلد قبل أي نظام آخر. فتحافظ السلطة على وجودها بخلق أجيال خاملة، متلقية، غير منتجة.


لاحقاً، تقرأ عن المربي (Educator) باولو فريري (Paulo Freire) وتذهل بالثورة التعليمية التي أسس لها والتي من شأنها تحرير الشعوب انطلاقاً من تحرير التلاميذ والأساتذة من ديناميات السلطة التقليدية. وهي لا تتعجب من كون هذه الثورة انتهت باستخدام القوة العسكرية، وإعتبار فريري "عميلاً" و"تخريبياً". ولا تعجب لعدم السعي الى نبش إرثه منذ سبعينيات القرن الماضي. فجميع القوى راضية عن النظام التعليمي الحالي. تُفكر: "الثورة الأعظم التي يمكن القيام بها هي الثورة على النظام التعليمي".

تحزن حين تعي أنها ستكون يوماً مكان أمها، تجبر أطفالها على النهوض كل يوم من أجل المدرسة، ليتم "حشوهم" بما يفسدهم. تشعر بالعجز والإحباط، لكونها عجلة في دولاب هذا النظام، وبمساهمتها في امداد الجامعات والمصارف بالموارد اللازمة لضمان استمرار النظام الاقتصادي الحالي. ترى نفسها مجرد "حجر في حائط" النظام، فتتذكر مشهداً من فيديو مصور للفرقة البريطانية "Pink Floyd"، حيث يتحول الطلاب الى روبوتات بوجوه متطابقة تحمل ذات النظرة الفارغة، فيتساقطون في ماكينة لحمة تعصر أدمغتهم. وتعلق في ذهنها جملتهم "لا نحتاج للتعليم، لا نحتاج للسيطرة على عقولنا".

لن تقوى على هدم الحائط، فتتمنى أن تحدث خدشاً فيه على الأقل.

                             
    
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها