الأربعاء 2023/02/15

آخر تحديث: 11:21 (بيروت)

النازحون السوريون والزلزال: حتى الله لا يريد لنا العودة

الأربعاء 2023/02/15
النازحون السوريون والزلزال: حتى الله لا يريد لنا العودة
دمار مدنهم دفن أحلام العودة تحت أنقاضها (Getty)
increase حجم الخط decrease
مع أن لبنان لم يصب من الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في الأسبوع الماضي سوى بإرتداداته، التي لم تؤد لخسائر بشرية ومادية، فإن تداعياته النفسية والاجتماعية الأعمق جاءت في مجتمعات النازحين السوريين المقيمين في لبنان منذ سنوات. فصحيح أن الزلزال كان بعيداً جداً عن خيمهم التي ارتجت تحتها الأرض. ولكنه باعتقاد البعض عمّق أزمة الهوية التي يعيشها النازحون في سائر أنحاء العالم. وصار هؤلاء مقتنعون بأنه حتى الله لا يريد لهم أن يعودوا إلى بلادهم.

بالنسبة لهؤلاء فإن دمار مدنهم دفن أحلام العودة تحت أنقاضها. وجعلهم أبعد من السابق عن النهاية السعيدة لقصص تشردهم. فشكّل الزلزال فصلاً آخر من فصول ظلم متماد، يستعيد معه البعض شريط من الذكريات والانفعالات السابقة، لتترافق مع لحظات الخوف والحزن التي عاشوها على أقرباء لهم، فيتبدد الاعتقاد بأن الحرب هي أسوأ ما كان ينتظرهم.

قصة باسل
باسل وعائلته الذين يقطنون في خيمة بوسط حقل يؤمنون رعايته في منطقة زحلة، هم ممن يحملون هذه الانفعالات منذ ليلة الزلزال الكبير..

عندما ينظر باسل إلى عائلته التي تحلقّت حوله أمام خيمته المحاطة ببضعة أشجار مثمرة، يستعيد مشاعر خوفه على أطفاله حين بدأت الأرض تموج من تحت أقدامهم، وكان كل همه في تلك اللحظة أن ينقذ عائلته، التي تتألف حالياً من ثمانية أفراد أصغرهم في عمر الأشهر. كان ذلك قبل أن يكتشف أن ما عاشه مع عائلته في تلك الليلة لم يكن سوى عيّنة عما اختبره أهله عموماً في سوريا.

قبل الاستقرار في لبنان منذ نحو 12 سنة، كانت وجهة باسل وعائلته أولاً من ريف حلب إلى جنديرس. وهي منطقة واقعة في ريف عفرين بمحافظة حلب شمال سوريا، وقد تضررت بشكل كبير جراء الزلزال بسبب قربها من الحدود التركية.

كانت هجرة عائلة باسل كما يروي جماعية إلى جنديرس، حيث سكنوا في بيوت مستأجرة بمنطقة من أجمل مدن سوريا الغنية بشجر الزيتون. ومع أن الأرض ليست أرضهم، حاولوا أن يستقروا هناك، حتى لا يبتعدوا كثيراً عن حلب، ويحافظوا على الأمل بالعودة إليها. إلى أن حولت الحرب جنديرس منطقة للاقتتال. فوضع أمام حلين لا ثالث لهما، إما أن يشارك في الحرب سواء في صفوف جيش النظام أو الجيش الحر وحتى داعش، وإما أن يغادر البلاد مع عائلته. يقول "الحرب تعني القتل والسرقة وكل الممارسات السيئة، وأنا لم أكن أرغب بهذا كله، ومن هنا كان قراري بالمغادرة".

عندما ينظر باسل من بعيد إلى ما حل بعائلته بعد الزلزال، يعتبر أن قرار النزوح كان تدخلا إلهياً لنجاته. مضيفاً "لو لم نمت في الحرب ربما كنا سنموت في الزلزال"، خصوصاً أن كل المنازل التي قطنتها عائلته سويت بالأرض، وبالتالي نجاتهم كانت أيضا أعجوبة.

يتحدث باسل عن وفاة أفراد ثلاثة من عائلته المقربة، فيما بات الناجون منهم حالياً مشردين على الطرقات، ولا يملكون حتى خيمة تقيهم من برد الشتاء. وهم يعانون أيضاً الجوع والحاجة للمياه والغذاء، بعدما انهارت مرافق الخدمات الأساسية ولم يتوفر الدعم الإغاثي الكافي للمنطقة حتى الآن. علماً أن التقارير الواردة من المنطقة تحدثت عن تهدم 200 مبنى بشكل كلي و500 بشكل جزئي، وبالتالي وفاة مئات الأشخاص تحت الانقاض.

إبن عم باسل هو واحد من هؤلاء الضحايا مع أفراد من عائلته. فيروي عنه أنه انشق عن الجيش السوري، غادر حلب وسكن في جنديرس حيث أسس في تلك البقعة عائلته. أكبر مخاوف الرجل كما يقول باسل كانت من إلقاء القبض عليه مجدداً من قبل النظام السوري. ولم يتوقع أبداً أن يموت جراء زلزال خطفه مع طفلين له، بعد أن نجح بإنقاذ أربعة منهم مع والدتهم. هذه المأساة ليست الوحيدة في عائلة باسل الذي يقول أن عائلة خاله دفنت أيضاً تحت الأنقاض، ولم تنجُ منها سوى إبنة واحدة.

بالنسبة لباسل وزوجته كان هؤلاء "صلة الوصل الدائمة، التي تذكرنا باستمرار بأننا ننتمي إلى هذه الأرض". ولكنهم اليوم صاروا قصتهم المستمرة حول المأساة.

باسل وعائلته


ومن هنا يخشى باسل أن يكون الزلزال ختام العلاقة مع سوريا. وهي بالأساس كانت تحتاج إلى تغيير النظام وإلى إدارة البلد من أشخاص عادلين يؤمنون بحقوق مواطنيهم، ولكنها اليوم تحتاج أيضاً إلى الأرض وإلى البنية التحتية وإلى إعادة بناء مدن تهدمت بكاملها، وهذا النظام بالثقة التي يفتقدها، وبالحصار الذي يواجهه وبالظروف القاسية التي تمر بها سوريا، لن يكون الجهة الصالحة لبناء سوريا كما كان يجب أن تبنى.

حرقة باسل -كما يقول- هي على أولاده الذين لم يعرفوا عن بلادهم سوى أخبار المآسي. مضيفاً "نحن عشنا أياماً جيدة وأياماً سيئة في سوريا. كانت لنا قصصنا الجميلة في بعض زواياها، وكل أملنا كان بتغيير ما، يؤمن بلداً أفضل لنا ولأولادنا. أما هم فلا يعرفون عنها سوى أخبار القتل والدمار، سواء جاءا بإرادة إلهية أو كان مسببهما الإنسان. وعليه فإن قصص طفولتهم عن بلدهم يسمعونها في نشرات الأخبار. ولا توجد غريزة في العالم تسمح بهذا الارتباط بين الإنسان والمآسي، بل نحن نجاهد لنبتعد عنها، وإزالتها حتى من ذاكرتنا. ومع إزالتها نخاطر أيضاً بذاكرتنا حول الوطن".

ويعتير باسل أن "ما نعيشه اليوم أصعب من الحرب. فالناس كانت نائمة ببيوتها، وفي اليوم التالي لم تعد موجودة، أو لم تعد بيوتها موجودة". وإذ يسلم بأن هذه "إرادة ربنا" يسأله بعتب في المقابل "طيب ليه يا رب، ألا يكفينا ما عانينا منه حتى الآن؟".

قصة عائلة حسن
تتنوع المشاعر بعائلة حسن. ففيما دفع الزلزال بسعاد الأرملة التي ربت أولادها وحدها منذ 12 سنة إلى إلقاء تحية الوداع على سوريا، التي بقيت تحلم بالعودة إليها يوماً ما، لا تيأس إبنتها هيام (23 سنة) االتي تقول بأن حلمها بالعودة مع زوجها وأولادها الذين ولدوا في لبنان لم تتزلزل، فيما يرغب شقيقها محمد (22 سنة) بأن يمحي بلاده كلياً من ذاكرته. فمشاعر الخوف التي اختبرها فيها منذ مقتل والده بعد اجتياح جبهة النصرة لمنطقة سراقب، أقوى من أن تمحيها نصف سنوات عمره التي عاشها في لبنان، وجاء الزلزال الأخير ليدمر ما تبقى من صورة جميلة عن الحياة العائلية السعيدة التي كانوا يعيشونها هناك.  

تقول سعاد "نحن لم نعد نملك بيتاً في سوريا منذ أكثر من 12 سنة. فبيوتنا تهدمت خلال الحرب، وتحت قصف الطيران السوري، ولكننا كنا دائما نتخيل البيت الذي نريد أن نعيد بناءه عندما نعود إلى أرضنا".

وصلت سعاد إلى لبنان أرملة مع عشرة أولاد. من دون أمتعة أو ثياب لهم. بل فقط أوراقهم الثبوتية التي فروا بها. وقد غادروا بلادهم من دون أن يعرفوا مصير والد أولادها، ليأتيهم الخبر بعد أشهر حول وفاته. وبالتالي، هي لم تتمكن حتى من دفن زوجها حتى تزور جبانته يوم تعود مع عائلتها إلى سوريا.

تحضن سعاد أصغر أولادها وتشير إلى أنه كان بعمر الشهرين عندما يُتّم، وهو بالتالي الأقل حظاً بين أشقائه كونه لم يتعرف إطلاقاً إلى والده، ومع خسارته خسر أيضاً البيت والأمان.

ولكن على رغم كل الصعوبات التي مروا بها، بقيت سعاد تزرع في عقول أولادها وقلوبهم فكرة العودة إلى إدلب يوماً ما. وفي مرات كثيرة عندما تمر بفترات ضيق شديدة كانت تفكر جدياً بالعودة، علّها تحاط هناك ولو بجزء من عائلتها التي يمكن أن تكون معيناً لها. ولكنها تعود وتحجم عندما ترى القلق بعيون أولادها الذين لا يتذكرون من سوريا سوى ليلة رحيلهم الصعبة.

نجت شقيقة سعاد وأولادها، وأصدقاء لها مقيمون في إدلب من الزلزال. ولكنها تقول "يخبرنا هؤلاء عن معارف لنا مصيرهم غير محدد حتى الآن. والأسوأ بعد الموت حجم الدمار الذي لحق بالبيوت. وعندما تتهدم البيوت وتبتلعها الأرض، ماذا يبقى لنا في سوريا؟".

سعاد وعائلتها


أما بالنسبة لإبنها محمد، فإن الزلزال كان صعباً نفسياً وعاطفياً. وهو ترك لديه انطباعاً بأن أخبار الدمار والموت لا تنتهي في بلاده.

عندما يتحدث محمد عن "سراقب"، لا يتذكر منها سوى الرعب الذي عاشه يوم بدأ قصفها بالطيران عشوائياً، إثر سيطرة جبهة النصرة عليها مع فصائل مسلحة أخرى. وبالتالي لم يكن بحاجة لزلزال حتى يستعيد تلك المشاعر السيئة التي تجعله غير راغب بالعودة إطلاقاً إلى بلاده.

ولكنه يقول "مع أن خيمنا لم تتأثر بالاهتزاز الذي دام أربعين ثانية في ليلة الزلزال، فقد اختبرت أرواحنا حجم الخوف الذي عاشه أقاربنا في سوريا".

كان محمد يعتقد بأن لا شيء سيضاهي خوفه الذي رافق قصف الطيران السوري لمنطقته، إلى أن وقع الزلزال الأخير. فبدا عاجزاً حتى عن تصور ما اختبره أبناء بلده وأقاربه بينما كانت الأرض تحاول ابتلاعهم.

يقول محمد "الخوف لا ينسى. وبدلاً من خوف واحد صار لدينا اليوم خوفان. وفي كلتا الحالتين نتحدث عن إبادة جماعية للناس، الأولى المسؤول عنها إنسان مثلنا مثله، والثانية بإرادة إلهية"، وكلاهما كاف بالنسبة لمحمد كي لا يفكر بالعودة إلى سوريا مجدداً. ويقول الهوة صارت عميقة بينه وبين هويته. "فنحن سوريون بهويتنا، ولكنني أشعر انني أنتمي إلى هذه الارض التي أمنت لي الاستقرار والأمان، ولو تحت خيمة. هنا قد لا أملك أرضاً وهوية، ولكن هناك صرنا بلا شيء، باستثناء هذه الورقة التي تقول أننا سوريون. حتى أهلنا الذين يسكنون في سوريا لم يعد لديهم سوى رحمة الله"..

إلا أن شقيقته هيام لا توافق محمد الرأي. وتقول أنها وزوجها المتحدر من إحدى المناطق المتضررة أيضاً في حلب، كانا يحلمان باللحظة التي سيتعرفان فيها إلى بلدهما مجدداً مع أطفالهما. متحدثة في المقابل عن حرقة ما بعد وقوع الزلزال، الذي جعلها تشعر أنها فقدت والدها مجدداً. مضيفة "هذا الزلزال كسر آخر حلقة وصل كانت تربطنا بأصولنا".

قصة ريم
ريم من ريف حلب الجنوبي، أيضاً لديها قصص مشابهة. وتتحدث عن التفاوت بالتفاعل مع أخبار الزلزال الذي ضرب سوريا، بينها وبين شقيقها الذي كان بعمر السبع سنوات عندما هربوا إلى لبنان وإبنة شقيقها الآخر التي كانت بالعمر ذاته. "فهما لا يتأثران بما حصل إلا من منطلق إنساني عام، بينما نحن من نكبرهم سناً شعرنا أننا هُجّرنا مرة ثانية".

لدى وصولها إلى لبنان رفضت ريم أن توضب أمتعتها، لإيمانها بأن الغياب عن سوريا لن يطول وستعود إلى بلادها خلال أشهر. الأشهر امتدت سنوات، ولد خلالها جيل وكبر جيل آخر، بينما الأزمات في سوريا تكبر وتتضخم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها