ولعل ما أحدثه هذا الخرق، من سجال واسع وجدليّ في صفوف الموالين والمعارضين لحكم الملالي في إيران، قد حتّم على حزب الله التابع بصورة صريحة لولاية الفقيه، اجتراح تدابير وقائية، تمنع أي تسرب لبيئته الحاضنة شبه المتململة أساسًا، بدءًا بالمؤسسات التربوية والتعليمية التابعة له، ثم بكشافة المهدي التعبوية لعناصره من الأطفال، وصولاً إلى المساجد واللقاءات والاجتماعات الطارئة التّي أقامتها الهيئات النسائية المتفرعة في الأحياء السكنية في الضاحية، وإلى البلدات والقرى الشيعية في الجنوب والبقاع.
مدارس المهدي
منذ عدّة أشهر تداول الناشطون/ات على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يُظهر مجموعة من الأطفال في مدرسة المهدي-شاهد لا تفوق أعمارهم الإثني عشرة سنة، يحملون صور المرشد الأعلى في الجمهورية الإسلامية علي الخامنئي والقائد العسكري قاسم سليماني، ويلوحون بأعلام الجمهورية الإسلامية الإيرانية على وقع نشيد "نحن عشاق الولاية". هذا المشهد الذي استفز الكثيرين باعتباره انتهاكاً صريحًا لحق الأطفال بالتعليم المحايد، وسلخهم العلني عن وطنيتهم، وتحميلهم الإنتماء لجهات خارجية.. ما لبث أن تكرر بُعيد اندلاع التظاهرات الشعبية في إيران، متخذًا النهج نفسه المؤكد للتبعية المطلقة لولاية لفقيه من قبل هذه المدارس، وإقحام الأطفال عنوةً في هذا المشهد، عبر إقامة وقفات منددة بالمؤامرة الغربية على الجمهورية الإسلامية الإيرانية و"إنجازاتها"، في حرم المدارس، تتضمن هتافات مناصرة لولاية الفقيه وأناشيد إيرانية، وحفلات "تكليف" للفتيات، تتضمن مباركات وتهنئات على صمودهن في وجه ما أسموه "الانحراف الغربي الشيطاني"، وقد تمّ نشرها عبر الصفحات الرسمية للمدارس من دون الإعلان صراحةً عن الموقف الرسمي إزاء التظاهرات.
يُذكر أن "مدارس المهدي" والتّي أسسها حزب الله منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، والتي يبلغ عددها اليوم حوالى الخمس عشرة مدرسة موزعة بين ضاحية بيروت الجنوبية وجنوب لبنان والبقاع، لها الدور الأكبر في خلق الخصوصية المذهبية والثقافية عند طلابها، ولا تتوانى عن دمج ما يمكنها دمجه من قيم ومواقف سياسية ومذهبية عند بروز أي تحولات على الصعيد السياسي الداخلي اللبناني أو حتّى الخارجي في دول المحور الإيراني. ولعل أبرز مثال هي الامتحانات التّي أجرتها عند مقتل قاسم سليماني منذ سنتين، حين اختبرت معلومات طلابها عن هذا القائد العسكري، واليوم تحاول جاهدةً الحؤول دون تسرب أهداف الاحتجاجات الإيرانية وتبعاتها إلى أذهان طلابها، عبر طمسها لمعالم الاحتجاج ووضعه في سياق المؤامرة الغربية، وحثّ طلابها على التمسك بقيم ولاية الفقيه المقدسة.
تعبئة تربوية وكشفية
وقد فُعل دور التعبئة التربوية التّي تنتشر فروعها في مختلف الثانويات والجامعات، والتّي تعمل جاهدة على تصويب الدعم للتظاهرات المؤيدة التابعة للنظام في إيران بوجه ما سُمي "الحرب الناعمة وأدواتها لزعزعة عقيدة الشعب الإيراني الوفي لولاية الفقيه". وانتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبين مجموعات الواتساب دعوات للقاءات عن هذه القضية وكيفية التعاطي معها وتدارك تبعاتها. كما وعملت كشافة المهدي على تعبئة الشباب والشابات المنتسبين/ات إليها، ودعوتهم/هن للمناقشة، وفي حين تسهم هذه الجمعية الكشفية منذ تأسيسها على أدلجة وتأطير الشباب الشيعي وتلقينه عقيدتها منذ بواكير عمره، بل وإعداده لاحقًا للقتال.
وقد كشفت مصادر "المدن" في الجامعة الللبنانية عن تفاصيل تبني التعبئة التربوية في فرع الحدث الخطاب الرسمي لأمين عام حزب الله حسن نصرالله منذ أيام وفرضه على أعضائها ومناصريها لاحقًا، والذي وصف فيه مقتل مهسا أميني بـ"الحادث الغامض" وأن الواقعة يتم استغلالها لتحريض المحتجين في الجمهورية الإسلامية، والتّي لا تعكس الإرادة الحقيقة للشعب الإيراني الوفيّ لقيادته. كما وأكدّ في كلمته التّي ألقاها مساء السبت الماضي 1 تشرين الأول، أن إيران القوية والمقتدرة هي موضع استهداف منذ اليوم الأول. ولذلك الجميع يراهن على التحرك من الداخل"، مشددًا "أن الجمهورية الإسلامية هي أقوى وأرسخ وأشجع من أي زمن مضى".
الهيئات النسائية
هذا الموقف الذي أعلنه نصرالله في خطابه الأخير، كان الموقف الذي اتخذته الهيئات النسائية منذ بدء انتشار فيديوهات وصور انتفاضة الإيرانيات على نظامهن، على وسائل التواصل الاجتماعي. فالهيئات النسائية عملت على عقد اجتماعات ولقاءات بالتعاون مع لجان الأحياء السكنية في الضاحية الجنوبية مع النسوة المناصرات لهن فيها، وهدفت هذه الاجتماعات لتسليط الضوء على التحديات التّي تخوضها المرأة المحجبة اليوم في ظلّ الإنفلات الأخلاقي والديني، وتصوير النسوة الإيرانيات بالجاحدات للنعمة التّي يعيشنّها في الجمهورية الإسلامية الإيرانية التّي ضمنت لهن كافة حقوقهن وحرياتهن.
وفي هذا الإطار تواصلت "المدن" مع إحدى مسؤولات الشُعب في الضاحية الجنوبية لمعرفة موقفهن من انتفاضة النسوة الإيرانيات على حجابهن. وقالت المسؤولة التّي فضلت عدم ذكر اسمها: "أرى أن هذه التظاهرات هي في الواقع مضخمة وغير منطقية. فنحن زرنا إيران سابقًا ولم نرَ هذا القمع والاضطهاد للنساء كما تحاول وسائل الإعلام الغربية الترويج له. وأجزم بأن هذه الاحتجاجات ليست عفوية ولا بريئة، بل هي وليدة المطامع الغربية في إسقاط الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ونحن نحث بناتنا وأخواتنا على التمسك بعقيدتهن، وعدم الإنجرار وراء البروباغاندا التّي تروجها وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المعادي".
وأضافت: "نخاف على أخواتنا من هذه المعتقدات السلبية التّي تؤثر على عقيدتهن وأفكارهن، والتّي باتت واضحة في الآونة الأخيرة، من موجات خلع الحجاب عند العديد من الفتيات في مجتمعنا، وتهاون الأهل في التصرف معه ونهيهن عن هذه التصرفات، التّي تخلّ بالمجمل بالشرع وما فرضه علينا من واجبات دينية، ونحث الأهالي اليوم على التمسك بالتربية الصحيحة لأولادهم واتخاذ تدابير وقائية تمنع عنهم السلبيات والشرور المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي".
لا شكّ أن تعقيدات المشهد الإيراني اليوم وتأثيره المباشر على عدّة دول تقع تحت وطأة الهيمنة الإيرانية، ومنها لبنان، تحول دون إمكانية وضع تصور مُسبق للتداعيات التّي قد يشهدها المجتمع الشيعي المناصر بجزء لا يُستهان به لولاية الفقيه ولحزب الله. والأخير بدأ فعليًا باجتراح التدابير والخطوات الوقائية من أي تصدع قد يطال مجتمعه وبيئته الحاضنة. غير أن هذه التدابير سرعان ما تحولت عند فئة واسعة إلى مصدر تبرم خصوصاً في ما يشهده هذا المجتمع من شرخ طبقي وتأزم اجتماعي مستجد ومنقطع النظير.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها