الخميس 2021/05/13

آخر تحديث: 13:23 (بيروت)

"لافونتين" لبنانياً: النملة والزيز يرقصان!

الخميس 2021/05/13
"لافونتين" لبنانياً: النملة والزيز يرقصان!
في مواسم الخصومة والمصالحة المتبدّلة، انقلبت الذئاب إلى نعجات، والغربان إلى ثعالب (Getty)
increase حجم الخط decrease
لو تقمّص أحدهم جان دو لافونتان، وكتب قصصه الخرافية في لبنان عام 2021، لكانت عِبر تلك القصص والأساطير تبدّلت وأخذت منحى معكوساً تماماً. فهنا، الطبيعة موحشة في تركيبتها وعناصرها أكثر مما هي في الفصول الخمسة الهندية المنقولة إلى كليلة ودمنة العربية.

كان يا مكان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، مزرعة صغيرة امتازت بقرب جبلها من بحرها، بفصول أربعة، وبكونها ممراً بين شرقٍ وغربٍ وجسراً بين المزارع المحيطة، القريبة منها وحتى البعيدة. عاش في هذه المزرعة الصغيرة مجموعات متنوّعة، مختلفة ومتعدّدة. تخاصمت حيناً، فأتت باحتلالات ووصايات. وتصالحت حيناً آخر، فأرست معادلات وتسويات. فلم تكن سعيدةً بالمطلق، ولا دائمة التعاسة أيضاً، يعيش قاطنوها بين هذين الحدّين. في مواسم الخصومة والمصالحة المتبدّلة، انقلبت الذئاب إلى نعجات والعكس، والغربان إلى ثعالب والعكس. تبدّلت الأدوار فيها، من حقبة إلى أخرى، فيُتعس السعيد حيناً ويُسعد التعيس في حين آخر.

نملة وزيز
في هذه المزرعة السعيدة، انقلبت حتى قصة النملة والزيز. كدّت النملة طوال فصل الصيف. جمعت حبوب الأرزّ، حبّات السكّر وبقايا دهون وحشرات، ووضعتها في مخازن المزرعة المحروسة جيداً والتي شاع صيتها أنها محميّة وبألف خير. أما الزيز، فعلى عادته، عاش في استهتاره وإهماله صيفاً. يقفز من غصن صنوبر إلى آخر، يلعب، يغنّي ويعزف الموسيقى، معكّراً هدوء الليل. وفي يوم تشرينّي ماطر، وقبل أن تُشعل النملة مدفأتها تحسباً للشتاء المقبل، خرجت إلى مخزن المزرعة لتؤمّن بعضاً مما جمعته وكدّت به في الصيف، لتعيش سبات شتاء مريحاً. فواجهها، مدير المخزن، وهو ثعلب أحمر محنّك، بأنّ مؤنتها موجودة لكن لا يمكن أن تحصل عليها كاملة. فعادت إلى مسكنها مع حبّة أرزّ واحدة، وقد وُعدت بالمزيد بعد مرور أسبوع.

ليلة زمهرير
راحت النملة تقتصد في الأكل والمشرب، بانتظار مطلع أسبوع جديد، يسمح خلالها لها الثعلب الأحمر بحبوب أخرى مما كدّت به صيفاً. جلست قرب الموقد، تكسر حبّة الأرزّ، وتوزّع أجزائها على صغارها الموعودين بشتاء مريح. مضى الأسبوع، وجاء آخر، فعادت والتقت الثعلب الذي مرّر لها من حصّتها في المخزن حبّة أخرى، واعداً بالمزيد. وتوالت الأيام والأسابيع على هذه الحال. ومع وصول شهر كانون القارص، وفي ليلة زمهرير، كانت تجلس النملة وحيدةً في غرفة الجلوس تحسب الأيام والآتي منها بانتظار المزيد من الطعام، طُرق باب بيتها. من الطارق؟ سألت. أنا جارك الزيز يا عزيزتي، جاءها صوت من خلف الباب. توجّهت إليه وفتحت الباب، ودعته إلى الدخول. ارتمى الزيز فور دخوله أمام المدفأة يئنّ من ألم البرد.

تذلّل وتبجيل
ليس عندي عيدان لأشعل النار، ولا كسرة أرزّ تملأ وجع أمعائي، قال الزيز. شكى همّه وحاله، واستفاض شرحاً. أعرب عن أسفه على حاله. حطّ من نفسه، متذلّلاً، متسوّلاً ومستجدياً. مدح حالها وبُعد نظرها وتخطيطها، وأمعن في تبجيل جِدّها وكدّها وعملها الشاق في الصيف. شتم نفسه، وصياعه وانحلاله، محاولاً الاسترزاق. وظلّ على هذه الحال، ساعات، يشرح ويعتذر. طيلة هذا الوقت، كانت النملة تجلس في مقعدها، وقد أراحت خدّ رأسها على يدها. تستمع إلى تبجيل لم ينته. ظنّ الزيز أنّ جارته ملّت من استعطائه، وتطلب مزيداً من الاحتفاء بها، والتصغير من شأنه. يمكنني أن أكنس دارك، عرض عليها. أن أمسحها وأنظّفها كل يوم. أن أزيل الثلج عن عتبة بابك، أن أخدمك وأخدم أطفالك، لكن ساعديني، قال.

بكاء وتهدئة
احتار الزيز بما يمكن أن يعرضه على النملة لمساعدته. لكن، هي كانت محتارة أكثر. كيف تخبره بأنّ لا فائض مؤنة عندها؟ أنها وأطفالها يئنّون جوعاً أيضاً؟ سيدفعه ذلك إلى تذلّل إضافي. فأخبرته بقصّتها مع الثعلب الأحمر، وما دار بينهما على باب المخزن، وكيف باتت تقسّط حبّة أرزّ على أسبوع لإطعام عائلتها. أخبرته بأنّ لا وصول لها إلى كل ما جمعته وتعبت به في الصيف، بعد أن حرمت نفسها من الإجازة والسباحة وحمّامات الشمس والسفر مع أطفالها لزيارة جدّهم وجدّتهم في المزرعة البعيدة قرب المستنقع. أخبرته أنّ هذه النار الصغيرة التي ينعم بها مهدّدة بالخمود لأنّ الثعلب صادر حتّى العيدان اليابسة في المخزن، ويقوم بتهريبها عبر الحدود إلى المزارع المجاورة. فجلست تبكي على حالها، وراح الزيز يواسيها.

هدّأ الزيز جارته النملة. لكنّه، أولاً وأخيراً، كائن مستهتر يحب الصياع. ضاع صيفك وجهدك وتعبك، قال لها. أما أنا فعلى الأقلّ غنيّت ورقصت واستمتعت. وكل مواعظك عن الراحة والتعب، والكدّ من أجل المقبل من الأيام، بلاهة مطلقة في مزرعة مماثلة لا قيمة للجهد فيها ولا أمل يرجى منها. نار الموقد تكاد تخمد، تعالي نرقص ونغنّي علّنا نشعر ببعض الدفء، وليسقط الثعلب الأحمر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها