الأربعاء 2021/04/14

آخر تحديث: 15:51 (بيروت)

مشروع إعادة إعمار المرفأ: الانفجار المعماري.. لـ4 آب تتمة!

الأربعاء 2021/04/14
مشروع إعادة إعمار المرفأ: الانفجار المعماري.. لـ4 آب تتمة!
أين سيذهب سكان مار مخايل؟ هم الناظرون إلى سكان الكرنتينا الذين ما عادوا حتى يومنا هذا (Getty)
increase حجم الخط decrease
بعد قرابة 9 أشهر على انفجار مرفأ بيروت، بدأ تباعاً الإعلان عن أفكار إعادة إعمار مرفأ بيروت ومحيطه، إن كان من خلال تصوّرات فعلية، كالتي قدّمها الوفد الألماني أو العروض الشفهية المقدّمة على لسان مسؤولين في شركات فرنسية وصينية وروسية وغيرها.
في هذا الإطار، وبسبب الأهمية الفائقة لمستقبل العاصمة، لا يسع "المدن" سوى فتح النقاش أو حتى السجال حول إعادة إعمار المنطقة المنكوبة، بمرفئها وأحيائها السكنية ونسيجها الثقافي والاجتماعي. فترحّب "المدن" بأي مساهمة في هذا الإطار، من قبل معنيين ومتابعين أو راغبين في التعبير عن رأيهم بهذا الخصوص، وبمستقبل جزء أساسي من عاصمتنا بيروت. 

إنّ فن العمارة قد مات! عبارةٌ أقلقت راحة المعماريين منذ تسعينيات القرن الفائت، وأشعلت لقاءاتهم ومعارضهم السنوية. لسنا في معرض كتابة مقالٍ عن العمارة وتاريخها أو عن توجهاتها ومقاربات روادها ومحديثها. لكن رؤية ما رسم لمشروع إعادة إعمار المرفأ وقسمٍ من المدينة بعد انفجار 4 آب، لا يوحي للناظر إلّا بالعبارة تلك، أكان من أهل الاختصاص أو من المهتمين بأيّ مجالٍ فنيٍ أو حتى من المطلعين على أيّ من الشؤون العامة.

في خدمة التطوير للعقاري
لا شك أنّ العمارة فن، ليس لأنها انضوت ضمن الفنون السبع في التعريف الكلاسيكي للفنون ولا لأنها تشاركت معاهد التعليم نفسها مع الفنون الأخرى. العمارة فن، لأنها لطالما حملت أبعاداً تواصليةً ربطت الشعوب ورسمت صورتها وحملت هموم المجتمعات البشرية، مازجةً بين البعد الإبداعي الشخصي والمقاربة الخاصة لمجتمعها. وهي بذلك تحمل روح عصرها. لكن العمارة فن مكلف. وإن صحّت نظرية الفنان المعذب التي رافقت الفنون منذ عصر الرومانسية، فهي تصحّ في المعماريين. فالرسم يحتاج أدوات يمكن للرسام ابتداع بدائل لها والأدب يطبع إبداع صاحبه بحبرٍ على ورق.. أما العمارة، فمرتبطةٌ عضوياً بكلفة البناء. وهي كلفة عالية نسبياً. هكذا تربط العمارة كفنٍ بالعامل المادي، والذي من دونه لا عمارة ولا تصميم معماري. فكيف الحال مع تحول سوق البناء منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين من أيدي الأفراد ودول الرعاية الاجتماعية إلى أيدي المطورين العقاريين ومضارباتهم وحساباتهم الربحية، التي أخذت عاماً بعد عام تجتمع في أيدي قلةٍ قليلة من الشركات الضخمة العابرة للقارات، راسمةً بذلك مستقبلاً قاتماً من ناحية احتكار السوق من جهة، واحتكار الرؤية المعمارية من جهةٍ أخرى. لا مكان للفرد في هذا الملعب. شركاتٌ تشتري الأرض، ترسم ما يناسب مصالحها، وتبني رؤيتها لمدينة الغد، لعمارة الغد لمجتمع الغد وانسان الغد! إنها فاشيةٌ لا فاشية بعدها.

قبور وروح ضائعة
وبمجرد النظر إلى ما أعلن من مخططات مشروع "السان ميشال"، يدرك الناظر أنّ ما خُطط لنا ولمدينتنا ليس إلا تطبيق مطلق للفاشية هذه. مطورٌ عقاري، يوظّف معماريين هم أقرب إلى مصممي الرسومات ثلاثية الأبعاد. يرسمون له ما يتناسب مع حسابات الربح والكلفة، ينسخون ما نسخوه قبلاً من آلاف المدن حول العالم، يزينوه بأشجارٍ وورود، يكتبون على قصاصاتهم الورقية شعارات رنانة كالتنمية المستدامة والطاقة الخضراء والتكافل الاجتماعي وتصبح الوصفة جاهزة. يأخذها المطوّر، يشيد بها في الإعلام المدفوع ويشرك بها أصحاب النفوذ في السلطة، فتصبح واقعاً لن يدفع ثمنه إلّا نحن. قد نقرأ عبارة "مساحة عامة" من هنا، أو "منطقة خضراء" من هناك، لكن كل هذا لن يكون إلّا عبارات. فلا شيء يمكن أن يعطي الروح للذي لا روح له، والمدينة روح. روح شعبٍ عاش فيها ومجتمعٍ بناها وبنته. ألم نتعلم من تجربة وسط بيروت؟ يكفي التنزه في شوارع وسط بيروت حتى في أيام عزها قبل عام 2005، لنفهم أنه ليس هكذا تبنى المدن. شوارعٌ مقفرة ما أن تطأ قدماك خارج الشارع المرسوم كالمجمع التجاري، محالٌ وشققٌ فارغة، نوافذ معتمة وبواباتٌ مقفلةٌ كالقبور. والحال عينه اليوم فيما يسمى الواجهة البحرية. كل هذا لأنّ المشروع رُسم ليكون ملعباً للمضاربين العقاريين والسماسرة على شكل السلطة التي حكمت منذ انتهاء الحرب الاهلية.

بين برلين وبيروت
أيام قليلة فصلتنا عن ذكرى بداية الحرب الاهلية في 13 نيسان 1975. تلك الحرب التي لطالما إشار إليها اللبنانيون بـ"الأحداث"، والتي قيل لنا إنها انتهت وأنه علينا بمرونتنا وحبنا للحياة أن ننساها، وننسى معها قتلانا وجرحانا ومخطوفينا. أي أن ننسى ماضينا الذي لن يكتب في كتب التاريخ. قيل لنا إن الوجهة واحدة، والناظر إلى الخلف يتحول ملحاً كما في حكاية سدوم. فأعادوا رسم مدينتنا لنا كما أرادوها وكما أرادونا أن نكون. والمقاربة اليوم في "السان ميشال" هي هي. ألا يعلم المستثمر الألماني أنّ برلين ليست برلين من دون تاريخها؟ ألا يعلم أنّ روح برلين تأتي مما رسم ماضيها على جدرانها من صناعةٍ وتطورٍ وحروبٍ ودمارٍ ونضالات شعب؟ ألا يعلم أنّ برلين ليست برلين من دون بقايا حائط الذلّ وعتمة مقرات ستازي وأرصفة أحياء الغيتو؟ أم أنه يعلم، لكنه لا يأبه؟ لا يأبه لأنه بفوقية المستعمر لا يرى في بيروت سوى أمتار بناء يقرّش ثمنها عملةً صعبة وأرباح استثمارات إدارة المنشآت. لأنه ببساطة، لا يرى فينا بشراً لنا روح كما في برلين. نحن سكانٌ أصليون جاء صاحب القبعة البيضاء لينير دربنا نحو الحداثة والحياة اللائقة، علّنا يوماً نصبح بشراً!

التهجير العرقي
في الحروب، وخاصةً الأهلية منها، تقع المجازر. هي ليست حوادث فردية كما يحلو للبعض تبريرها، كما في مجزرة الكرنتينا أو الدامور وغيرها. المجازر سلاحٌ من أسلحة الحرب، يهدف بعد قتل من قتل من سكان منطقةٍ معينة إلى تهجير من تبقى منهم بغية تأمين صفاءٍ منشود في البقعة الجغرافية تلك. هكذا ترك أبناء بيروت بيوتهم ليستقروا في ضواحيها الجنوبية أو الشمالية بعد أن أصبحت بيروت صافيةً طبقياً وحكراً على المقتدرين والمغتربين. انها حرب تصفية!

عندما غزا الصهاينة مدن فلسطين، هذا ما سعوا إليه. بثّوا الرعب في النفوس تحت صرخات القتل والذبح بغية تأمين صفاءٍ عرقيٍ لدولتهم المنشودة. لكن المفارقة هنا أنّهم حاولوا قدر المستطاع المحافظة على المدن على حالها بغية سرقة تاريخها وروحها، بعدما سرقوا الأرض والدولة. كل هذا لإدراكهم أنّ العمارة هي روح المدينة، وبأنهم بذلك سينسبون لأنفسهم تاريخاً ليس لهم، وماضياً سيضفي مستقبلاً حيّاً لما يدّعونه. أما هنا، في بلادنا المسروقة، فما ترك المستثمرون هيكلاً إلا وهدموه، مخلّفين مكانه مئات الأبراج الفارعة التي أمست مسخاً مستنسخاً يفرغ كل مدن الأرض من خصائصها وحضارتها ويحولها شبحاً زجاجياً لا رائحة ولا لون ولا طعم له. أين مشروع السان ميشال من هذا؟ أين سيذهب سكان مار مخايل بعده؟ هم الناظرون إلى سكان الكرنتينا الذين ما عادوا حتى يومنا هذا. إنها التصفية!

كان لي صديقٌ قد رابط لسنواتٍ على أحد محاور وسط المدينة أبان الحرب الأهلية. وفي جلسةٍ سادها الحنين والذكريات، نظر إلى شوارع المدينة من نافذته الصغيرة وقال إنه للأسف، لم يكن إلا مقاولاً التزم عملية هدم هذه المدينة، ليأتي مقاولٌ آخر يجرف ردمها ويبني مكانها مسخاً أسماه "سوليدير".

مقاولٌ فجَّر المرفأ، فأطلّت جحافل "الفريش موني" وزيّنت ساحة الجريمة في عملٍ يجمع بين الفنّ والتواصل اللاعنفي، وها هو المقاول الثاني يطل برأسه.. فماذا نحن فاعلون؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها