الجمعة 2021/11/26

آخر تحديث: 13:32 (بيروت)

الدكوانة-تل الزعتر نهاية الستينات: الأحزاب المسيحية وطفرة الكتائب

الجمعة 2021/11/26
الدكوانة-تل الزعتر نهاية الستينات: الأحزاب المسيحية وطفرة الكتائب
تناسل التوتر والصدامات شبه اليومية بين الدكوانة وتل الزعتر طوال النصف الأول من السبعينات (Getty)
increase حجم الخط decrease
بعد حلقة أولى من هذه الشهادة عن الدكوانة ومجتمعها المحلي في الخمسينات والستينات- "المدن" 24 تشرين الثاني الجاري- هنا حلقة ثانية عن أحزابها المسيحية، وبدايات الحوادث التي لابست فيها ظهور العمل الفلسطيني المسلح في مخيم تل الزعتر على تخومها. أما الراوي فهو واحد من أبنائها المولود سنة 1952، وننقل هنا روايته بصيغة المتكلم.   

نماذج الحزبيين المسيحيين
كان محازبو الكتلة الوطنية في الدكوانة من عائلاتها المحلية غالبًا، أو سكانها "الأصليين". وفي جيل سبق جيلي، وربما يكبرني بجيل تقريبًا، أنا المولود سنة 1952، كان الكتلويون محامين أربعة أو خمسة من تلك العائلات، وتخرجوا حديثًا من جامعة القديس يوسف في بيروت، عندما كان حملة شهادة البكالوريا من مجايليهم قلةً ضئيلة أو نادرة بعدُ في الدكوانة الضيعة. وهذا يؤكد مقولة شائعة مفادها أن حزب الكتلة الوطنية كان من النخب العائلية المتعلمة، ويكثر بينهم المحامون. أما جيلي الذي تكاثر متعلموه الفتيان والشبان في ستينات الدكوانة الضيعة وسبعيناتها، فكان كتلويوه يفوقُ عددهم عدد كل من محازبي الكتائب اللبنانية والوطنيين الأحرار.

ويمكن، على وجه الاجمال، رسم صورة نموذجية لمحازبي هذه الأحزاب المسيحية الثلاثة، على النحو التالي:

- الكتلوي متعلّم ومرن، رابط الجأش، يتجنب إلا مرغمًا وفي حالات نادرة الإقدامَ على المشاكسة والعراك والعنف، ويلتزم الكياسة والحِلم في سلوكه وعلاقته بالناس وبالمحازبين الآخرين، وحتى في الجيل الشباب الذي تكاثر متعلموه في الستينات والسبعينات. وغالبًا ما يتحدر الكتلوي من نخبة العائلات صاحبة المكانة في بيئاتها المحلية، ومنها الدكوانة الضيعة.

- الوطني الحر الشمعوني أقل تعليمًا من الكتلوي، وقد يكون متدني التعليم أو غير متعلم. وغالبًا ما يتحدر من العائلات المحلية الأقل مكانة ووجاهة. ويغلب على حزبيته ضعفُ التنظيم والعمل التنظيمي، وولاؤه للزعامة الشعبية الكاريزمية للرئيس كميل نمر شمعون. وينجم عن ذلك ميل المحازب الشمعوني، التلقائي، العفوي والمباشر إلى الروابط أو النعرات العائلية والأهلية المحلية، بديلًا عن الروابط التنظيمية المركبة أو الصناعية، فيحركه ولاؤه لكاريزما الزعيم الشعبي أكثر من العمل الحزبي المنظم، الضعيف لديه أصلًا وفصلًا. وفي الدكوانة الضيعة ورأس الدكوانة كان الأحرار الشمعونيون قلّة بين مجايليّ في الستينات والسبعينات.

- المحازب الكتائبي تخالف صورته هذين النموذجين، وقد تختلط أو تتداخل فيها بعض عناصرهما. فهو أقل تعليمًا من الكتلوي، ويتفوق على الشمعوني في التعليم. وكذلك يتفوق على كلاهما في النشاط والتنظيم والحميّة الحزبية. وهو غالبًا عاميٌّ، لكن عاميّته أقل استجابة للنعرات العائلية المحلية، لصالح الحزبية المنظمة، رغم ميله إلى المشاركة والعراك والحضور في الفضاء العام المحلي، بناءً على دوافع وروابط حزبية. وقد تكون صورة الكتائبي هذه سابقةً زمنًا بقليل على الطفرة الكتائبية الجديدة في الدكوانة، والتي أذن بها ظهور العمل الفدائي الفلسطيني المسلح أواخر الستينات، في مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين المتاخم لرأس الدكوانة، حيث تكاثر الكتائبيون بين سكانها الوافدين إليها من الأرياف المسيحية البقاعية والشمالية.

الطفرة الكتائبية
ومن مظاهر الطفرة الكتائبية في أواخر ستينات الدكوانة الضيعة، بروز فتيان مصلحة طلاب الكتائب وشبانها المتعلمين ومحاولتهم الهيمنة على نادي السان جورج فيها، ووقوف طلاب الكتلة الوطنية ضد هيمنتهم عليه. وقد حدث ذلك قبيل توقيع اتفاق القاهرة الشهير سنة 1969، بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطات اللبنانية، وفي خضم خوف مسيحي محلي داهم في الدكوانة من منظمات الفدائيين الفلسطينيين المسلحة في تل الزعتر القريب، والمتاخم لرأس الدكوانة. فمنذ بدايات العام 1968، راحت تتالى المشاكل والصدامات، أسبوعيًا تقريبًا، بين الكتائبيين ومن خلفهم أهالي الدكوانة ورأسها الخائفون، وبين الفلسطينيين المسلحين في تل الزعتر. وفي نهار من العام 1969، أصيب في واحدٍ من تلك الصدامات مسؤول الدكوانة الكتائبي.

وفي هذا المناخ تحولت ساحة الدكوانة الضيعة ملتقىً يوميًا للفتيان والشبان المحازبين الكتائبيين والكتلويين والأحرار، وكذلك الأهالي، فاسترسلوا في مناقشات حامية مدارها الصدامات مع مسحلي تل الزعتر والخوف من الفلسطينيين وسلاحهم. حتى أن شبانًا كتلويين من أقارب أمي- صاروا لاحقًا يساريين وشيوعيين– قرروا إصدار مجلة شبابية للكتلة الوطنية في الدكوانة، فصدر منها عددان أو ثلاثة، ونشرت موادَّ ثقافية إلى جانب موضوعات سياسية سجالية مع التوجهات الكتائبية. هذا فيما بدأ الكتائبيون في مصلحة طلابهم الناشئة في الدكوانة الضيعة دورات تدريب وتعبئة إيديولوجية أو عقائدية، يتصدرها كريم بقرادوني وميشال سماحة، وأحيانًا رشاد سلامة. وأذكر أن الطلاب الكتائبيين أعطوني في صباي كتابًا عنوانه "فلسفة العقيدة الكتائبية" لقراءته ومناقشته. وأنشأ محازبو الكتائب مجلة محلية لمصلحة طلابهم الذين كانوا نشيطين حزبيًا ومتفوقين دراسيًا.

ومن المظاهر الأخرى للطفرة الكتائبية في العام 1968 وبعده، تكاثرُ المحازبيين الكتائبيين في رأس الدكوانة، وافتتاحُ مركز حزبي لهم فيها، وكان حوالى 90 في المئة من فتيانهم وشبانهم غير متعلمين، أو من المتسربين باكرًا من التعليم ومدارسه، والمنخرطين في سوق العمل والمهن المتواضعة. وفيما كانت مصلحة طلاب الكتائب في الدكوانة الضيعة تصدر مجلة شبابية للمتعلمين وتدعوهم إلى دورات التدريب والتعبئة العقائدية، فيشرح فيها كريم بقرادوني العقيدة الماركسية ويرد عليها ليبين تهافتها، مقارنة بالعقيدة الديموقراطية الاجتماعية الكتائبية، كان مقر حزب الكتائب الناشئ في رأس الدكوانة لفئة فتيانها وشبانها غير المتعلمين غالبًا، ينظم لهذه الفئة دورات تدريب رياضية في المصارعة الحرة وكمال الأجسام، مجانًا في مقره الرئيسي في الصيفي. وكان والدي قد جُنَّ جنونه لما علم أن أخي أقدم على الانخراط في تلك الدورات، فمنعه منعًا باتًا من متابعتها.

لكن مقرَّ هؤلاء المحازبين الكتائبيين في رأس الدكوانة، سرعان ما تعرض لهجوم بقذيفة مدفع آر. بي. جي، أطلقها عليه مسلحون فلسطينيون في تل الزعتر. فأدى ذلك إلى إقفال المقر وإقدام الكتائبيين على فتح مقرٍ جديد لهم في الدكوانة الضيعة. وذلك في غمرة تفاقم خوف أهلها، وتزايد نشاط التعبئة الكتائبية، وتناسل التوتر والصدامات شبه اليومية بين الدكوانة وتل الزعتر طوال النصف الأول من السبعينات. وكان ذلك أشبه بتمهيد لانفجار الجولة الأولى من الحروب الأهلية، بين الشياح وعين الرمانة، بعد حادثة مقتلة الفلسطينيين في "بوسطة عين الرمانة" المتوجهة من مخيم شاتيلا إلى مخيم تل الزعتر، نهار الأحد 13 نيسان 1975.

(يتبع حلقة ثالثة وأخيرة) 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها