الإثنين 2020/11/30

آخر تحديث: 18:23 (بيروت)

"قضية لو غراي": أول حكم قضائي ينحاز للناس وحقوقهم

الإثنين 2020/11/30
"قضية لو غراي": أول حكم قضائي ينحاز للناس وحقوقهم
من القرار الصادر: التظاهر واجب كل مواطن صالح (أرشيف)
increase حجم الخط decrease
بعد 5 سنوات، انتهت قضية تظاهرة 8 تشرين الأول 2015، التي تعرف باسم "تظاهرة لو غراي"، أو قضية "بلاطة لو غراي". فصدر عن القاضية المنفردة الجزائية في بيروت، ناديا جدايل، حكماً برّأ المتظاهرين المدّعى عليهم في الملف، والبالغ عددهم 14. إضافة إلى إسقاط دعوى الحق العام عن يوسف الجردي، الذي توفى مطلع أيلول 2016. توفّى الشاب، بصعقة كهربائية، بينما كانت لا تزال القضية في المحكمة العسكرية. مات قبل إعلان براءته في قضية قضائية أقلّ ما يقال فيها إنها تشفٍّ وانتقام ومحاولة تأديب للناشطين، فيها ما يكفي من تجنٍّ تتقنه السلطة السياسية ومنظومتها.

تظاهرة 8 تشرين
بالعودة إلى 8 تشرين الأول 2015، كانت ساحات بيروت تلفظ آخر أنفاسها الحامية في تظاهرات "طلعت ريحكتم". وتحت وابل القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه ورصاص حيّ أطلق في الهواء (لا يزال مصدره مجهولاً ولم تتبنّه قوى الأمن الداخلي)، اخترق عدد من المتظاهرين السياج الشائك، وعملت قوى مكافحة الشغب على توقيفهم. منهم من كان تجاوز الشريط، ومنهم من كان يقوم بهزّه من دون آلات قاطعة ولا أدوات أخرى. فاعتقل 15 ناشطاً وناشطة، وتم الادعاء عليهم بتهم إثارة الشغب والقيام بأعمال التخريب وإلحاق الضرر بممتلكات الغير ومعاملة رجال الأمن بالشدة.

دفاع الرفض
بعد التوقيفات المتلاحقة، وبينما كانت العاصمة وسائر المناطق الأخرى تغرق بالنفايات، عمدت السلطة على محاكمة ناشطي تظاهرة 8 تشرين أمام القضاء العسكري. كان الهدف "تربية" الشارع اللبناني والقصاص منه، ترويعه وترهيبه وثني الناس عن التعبير والتظاهر. فتمسّك المدعى عليهم، ومحامو الدفاع عنهم، بحقّهم في المحاكمة أمام القضاء الطبيعي. واعتمدوا مبدأ "دفاع الرفض" لعدم اختصاص القضاء العسكري في قضايا مدنية، خصوصاً أنّ المحكمة العسكرية برأت 4 مدعى عليهم من أصل 5 من تهمة معاملة قوى الأمن بالشدة. وتمّت إحالة الخامس إلى محكمة الأحداث لكونه قاصراً. فأعلنت المحكمة العسكرية عدم اختصاصها في القضية في آذار 2017 بعد عام ونصف من التظاهرة والادّعاء.

كابوس المحكمة العسكرية
يصف عدد من المدّعى عليهم في "تظاهرة لو غراي" المحاكمة أمام المحكمة العسكرية بالكابوس. فيقول المدّعى عليه الذي تمّت تبرئته، وارف سليمان، لـ"المدن" إنّ "مجرّد الدخول إلى المحكمة العسكرية كان ضرباً من الجنون". في ذلك المبنى ينتظر المدعى عليهم لساعات، يجرّدون من كل ممتلكاتهم. يستمعون إلى كل القضايا التي تعرض على القضاة. ينتظرون ساعات للإجابة عن سؤال في ثوانٍ. حتى الوقوف أمام صفّ من العسكر كان أمراً مضنياً. لذا يستمرّ نضال لجان المحامين وناشطيها لإقرار قانون يمنع محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري. مع العلم أنّ تجارب 2015 وانتفاضة 2020 حقّقت شيئاً على هذا المستوى.

القاضي.. مواطن
حكم البراءة الصادر عن القاضية ناديا جدايل في قضية "لو غراي"، قرار استثنائي أول من نوعه في لبنان. يشير عضو لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين في لبنان، المحامي أيمن رعد، لـ"المدن" إلى أنّ اسثنائية الحكم الصادر "تظهر في اللغة التي اعتمدتها جدايل في توصيف القضاء ومهمّة القضاء والمواطنين وحقوقهم في الرفض والتعبير والتظاهر". فمما جاء في نص القرار أنّ "القضاء يصدر أحكامه باسم الشعب اللبناني، القاضي ليس ملكاً متربعاً على عرشه... إنما ناطق بلسان كل فرد من المجتمع". أضافت أنّ القاضي "يعيش الألم نفسه، يتنشّق رائحة النفايات نفسها، يتحمّل الأعباء والأزمات الاقتصادية نفسها".

موقف واضح
بدا وكأنها تنطق بلسان الناس، فكتبت في متن نص الحكم أنّ "الشعب ضاق ذرعاً من تسلسل الأزمات التي، بمعزل عن مسبّبها، حرمت المواطن من أدنى مقوّمات الحياة الكريمة". وعبّرت جدايل عن موقف واضح بتأكيدها على أنّ التظاهر والمشاركة في تجمعات شعبية "وجه من وجوه حرية التعبير والحرية في المجتمع- بل هو واجب كل مواطن صالح يسعى إلى تكريس مبدأ محاسبة المسؤولين". ودعت إلى تكريس حقوق المواطنين وضمانها وحمايتها "سواء من قبل القضاء اللبناني أو من كافة الأجهزة المكلفة بحفظ الأمن والنظام". واعتبرت أنّ "تكريس مبدأ الحق بالتظاهر يفرض على السلطات جميعها ضمانة حسن ممارسته والتعاطي مع ممارسي هذا الحق لا كدولة بوليسية بل بصورة حضارية". شدّدت على عفوية تحرّك المدعى عليهم، على اختلاف طوائفهم والمناطق التي أتوا منها، على تنوّع وظائفهم ومستواهم العلمي، مشيرة إلى أنّ "عاملاً مشتركاً وحيداً بينهم، أنهم نموذج مصغّر عن المجتمع اللبناني بمختلف أنماطه، اجتمعوا قرب ساحة النجمة للمطالبة بحقوق أساسية بسيطة في الحق بالصحة وكرامة العيش". وكان موقف جدايل واضحاً لجهة تبنّي مطالب الناس، حماية حقوقهم، وتمثيلهم لقضية وطنية جامعة.

لم يسبق أن صدر عن قاضٍ لبناني حكماً قضائياً مماثلاً أشبه بمطالعة دفاعية عن المتظاهرين والمواطنين. مطالعة تدين أداء السلطة من دون تسميتها، وتلمح إلى بوليسية النظام من دون قولها علناً. قد يكون هذا من إفرازات 17 تشرين، والأصح من نتائج الانتفاضة الجماعية والشاملة على واقع الأزمات والذلّ والانهيار الذي أوصلت منظومة الحكم اللبنانيين إليه. ويبدو أنّ مكتسبات ثورة 17 تشرين، وما سبقها من تحرّكات واحتجاجات، لم تنته عند حدّ إسقاط حكومتين والفوز في انتخابات نقابية من هنا أو جامعية من هناك، وجمع المناطق والأحياء والناس، بل لها آثار عميقة ستنكشف تباعاً. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها