الجمعة 2020/01/31

آخر تحديث: 00:22 (بيروت)

الهيلا هو و17 تشرين: كرنفال الشتيمة وفجور السلطة (1)

الجمعة 2020/01/31
الهيلا هو و17 تشرين: كرنفال الشتيمة وفجور السلطة (1)
الربط بين الشتيمة واللحن والفضاء العام، أحال الغضب احتفالياً (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
ملاحظة: قبل البدء بقراءة هذه المقالة، نرجو عدم اعتبارها تحريضاً على ارتكاب العنف، ولا تشجيعاً عليه، بل قراءة تحليلية ذاتية منحازة لمسارات الأمور. أنا مواطنة أيضاً، وأنصح في الأحوال كلها انتظار حلقتيه التاليتين.


منذ وطئت قدماي مدينة سياتل الأميركية، تقلّص هامش الشتم لدي. بات شبه معدوم. لم يعد هنالك ما أشتمه، باستثناء اللحظات التي أتذكر فيها مصرفي الذي منعني من سحب جزء من مدخراتي بالدولار. كان ذلك قبل 17 تشرين الأول 2019. بعد هذا التاريخ تحولت الشتيمة في لبنان، تبدلت معالمها، وتبدلنا.

ليست شتيمة "الهيلاهو" سوى نقطة الانطلاق. هي الأصل الذي تعدته فصول شتم متنوعة أقل وطأة من الشتيمة الأصل، كـ "خود" التي غالباً ما كان يطلقها المتظاهرون مع حركة بذيئة من أصابعهم، وأغنية لفضل شاكر. وهناك سوى ذلك من شتائم نثرية فايسبوكية أطلقها أفراد من دون خجل ولا غضب. تستحق استعادة أغنية فضل شاكر مقالةً منفردة. ولكننا نركز هنا على الوقت الذي تلا 17 تشرين ذاك، والذي رتّب تموقعاً جديداً لأشكال الشغب التي تمثل الشتيمة نقطة انطلاقها الأساسية.

أصل الشتيمة/ الشتيمة الأصل
امتعض عددٌ لا بأس به من المواطنين من شتيمة "الهيلاهو" الباسيلية. منهم من بنى امتعاضه على تعاطف مع باسيل من منطلق "لماذا هو دون سواه". كُتب الكثير عن الرجل الذي اعتبر الشخصية الأكثر إثارةً لكره المنتفضين. ومنهم من عزا رفضه إلى مبدأ نسوي، ومنهم من تذمّر بناءً على تصوّر طُهراني عن الثورة، وصورة مثالية للثائر المسالم الذي يلتزم بتصرفات معينة.

لحن الهيلاهو هذا الآتي من موروث محمد فوزي الموسيقي، والذي استعيض فيه عن كلمات "Chérie je t’aime " بشتيمة "جبران باسيل ك… إمو" ، فيه مسّ لمناصري النسوية، في حال العودة إلى احتمالات أصل شتيمة الكـ... يُعتقد أن أصل اللفظ دخيل على اللغة العربية، وهو تركي الأصل، ويطلق على الفتاة أو يقال للبنت باللغة التركية "Kiz" (كز). ويبدو أنه استخدم محل الفرج بالعامية، وليكون محط احتقار لا مناص فيه طوال سنوات. هذا الانزياح للكلمة واختزال الفتاة بعضوها التناسلي وتحويله شتيمة، فيها ما يكفي ليدعو لامتعاض كثيرين. رغم ذلك، بقيت شتيمة الهيلا هو مستمرة وتمسّك بها عدد من مناصري النسوية أنفسهم، الذين غالباً ما يرفضون سلوكيات مماثلة، لكن يبدو أن لكل قاعدة استثناء.

الشتيمة الأصل تبدلت... لا أعني بالتبدل هنا فقط توالد الهيلاهو إلى أكثر من نسخة، بل تحوّل هدف الشتيمة منذ صيغتها الأولى.

الغضب احتفالاً
لم تكن الهيلاهو يوماً تعبيراً عن الغضب، بقدر ما كانت لحظة تفلّت وتحرّر كسرت سقف العلاقة بين السلطة والمواطن. المواطنون اللبنانيون يكيلون الشتائم لزعمائهم منذ سنوات. لكن هذا الربط بين الشتيمة واللحن والفضاء العام، أحال الغضب احتفالياً، فغيّب الاحتفال الغضب الذي

تحول إلى استراتيجية لها أدواتها، بدل أن يكون انفعالاً يعبر عن عجز، عندما يتقدم الفرد ليجابه السلطة ويردّ لها فجورها. في تلك اللحظة تتبدل ديناميات القوة بين السلطة والفرد الذي لا يظل ضحيتها، لأنه يستعيد حقه في الرد عليها. وإذا كان الرد سلبياً للبعض، إلا أنه ينفي عنه سمة العجز.

قد تصدر الهيلاهو عن موقع دنيوي لأولئك الذين يربطون الشتيمة بسلوك قوم في مرتبة دنيا. وهذا يُكتب فيه مقال مستقل (الشتيمة من منظور طبقي). في كل الأحوال، وكائن من كان أول من نطق بالهيلاهو، فقد تحولت أغنية عابرة للطبقات. بل أصبحت فعل تضامن وتآزر متفق عليها عضوياً بين من اختاروا التمرد.

باختين وغوته
ثمة نفس كرنفالي في الهيلاهو. فهي تذكر بما ورد في كتاب باختين "رابليه وعالمه" الذي تشارك مع غوته بعضاً مما ذكره الأخير حول طقوس مهرجان النار في إيطاليا. لم ينفِ باختين وجود تباين في الآراء بينهما حول موقع الشتيمة. يذكر غوته أن مهرجان اليوم الأخير من كرنفال روما، يضم مسيرة ضخمة لحملة شعلة النار هاتفين: "الموت لمن لا يحمل شعلة". (Sia ammazzato chi non porta moccolo! ). ويتسابق كلٌ من المشاركين لإطفاء شعلة جاره. وكلما علت الهتافات فقدت نبرتها التهديدية. وفي وصفه لتلك النبرة يقول غوته عن الشتيمة: "كما هي الحال في كثير من اللغات، غالبًا ما تُستخدم اللعنات والكلمات الفاحشة تعبيراً عن الفرح أو الإعجاب. لذلك يكون المعنى الحقيقي لـ sia ammazzato قد نسي تماماً في هذا المساء، ويصبح كلمة مرور، صرخة فرح، وامتناع عن الفعل، ويضاف إلى النكات والمجاملات". لا يتفق باختين كلياً مع وصف غوته، فيرى أن الازدواج الناتج عن أصل الشتيمة يبقى قائماً: "جوهر المسألة هو مزيج متناقض من الإساءة والتمجيد، من الرغبة في الموت والرغبة في الحياة، في مناخ مهرجان النار الذي يشي بالحرق والانبعاث".

استرداد الفضاء العام
في الحالة اللبنانية، وفي سياق ثورة 17 تشرين، تعبر الهيلاهو عن ازدواجية الإساءة والتمجيد في الوقت نفسه. وبقدر ما فيها من إساءة مقصودة لشخص باسيل، فيها أضعاف أخرى تعبر عن الازدواج الذي تحدّث عنه باختين. الهيلا هو صرخة إعجاب بالثورة في لحظة انبثاقها. وما تكرارها إلا فعل تأكيد على الانضمام اليها. وما اعتماد نسخ متعددة للأغنية، إلا فعل تماه مع متطلبات استرداد علاقتنا، أفراداً ومواطنين، مع الفضاء العام وما يرتبه من تأكيد. التمسك بنسخ بالهيلاهو يشبه تمسكنا بالمواطن الخفي الذي فينا، واستعدناه في لحظة تحررنا من خوفنا من استحالة التغيير.

المراوحة في الشتيمة الأصل، هو كلمة سر ثورة 17 تشرين. والعودة اليها فعل تفاوض بين راديكالية لحظة الثورة الأولى وما تلاها من مناورات بين السلمية والتصعيد، بين "الطريق مسكّر يا حلو" وهيلاهو الميلاد وسائر الهيلاهوهات. وأشد ما يصيب باسيل في صميمه أنه يختفي شيئاً فشيئاً في رمزية الشتيمة الأصل.

في اليوم الأول للثورة شهدت بيروت بعض أحداث الشغب، ما أدى إلى تحطيم واجهات بعض المحال. توقفت تلك الأعمال وبات حدوثها مضطرداً لبعض الوقت، لتطغى عليها شتيمة الهيلا هو وأفعال أخرى أكثر احتفالية، ولها دلالاتها في استرداد الفضاء العام، وفي العلاقة الجديدة التي باتت تربطنا بالسلطة وبكل مكوناتها: "لم يعد لدينا ما نخسره وسنسلك في احتجاجنا بكل خفة ممكنة". كانت لافتة هذه الخفة التي تمثلت بنماذج خلّاقة سجلتها الذاكرة الجماعية. لن تنسى الأجيال المختلفة التي شاركت في الثورة: لا غرفة الجلوس التي على جسر الرينغ، والتي عُرضت للإيجار على Airbnb، ولا الثوار- الفنانين الذين قطعوا الطريق وباتوا يغنون لرياض سلامة على وقع موسيقى حبيبي يا عيني، ولا أغنية البايبي شارك التي غنّاها المنتفضون كي لا يخيف مظهرهم طفل السنتين القابع في السيارة مع والدته، ولا كرنفال الاستقلال المدني الأسطوري في 22 تشرين الثاني ... لا، لن ننسى هذا كله قط.

3 أشهر من الغناء
في الأشهر الثلاثة من الثورة غلبت كفة الشغب الودود، الكرنفالي، والظريف، على كفة ما صنف "شغب الزعران" و"عنف المندسين" و"الدخلاء على الثورة"، أو "العنف الثوري" وما إلى هنالك من عبارات أخرى استنكارية وتخوينية أحياناً، أطلقها كل من حاول حصر ملكية الثورة برؤيته الطهرانية أو السياسية لـ "كيف يجب أن تكون الثورة".

لا يخفى وجود "المندسين" و"الدخلاء على الثورة"، ولا ظهورهم الواضح للعين المجردة. لكن أولئك ليسوا من كانوا في شارع الحمراء ولا في أمسية 18 كانون الثاني.

كان للشغب الودود الذي استمر ثلاثة أشهر وظيفته. وهو أثبت نجاعته في مرحلة معينة. وعلينا أن نتنبه لمرحلة جديدة من المواجهة ستفرض أدواتها المغايرة وتضاعف ما سبق من فداحات: أشهر ثلاثة من الغناء للسلطة، من كيل الشتائم وزيارات منازل السياسيين المتكررة، من إقفال الطرق والإضرابات والإحتفالات، ومن الانتظارات في المصارف وذلها...

ماذا فعلت السلطة؟
فبماذا قابلت مكونات السلطة ذلك كله ؟

التزم الثوار الأتيكيت واعترضوا وفقاً للأصول المرعية، من يرعاها؟ من حدّد الأصول؟

حسناً. لنقل إن من حدّدها مجهول، لأن لا وقت للخوض في هذه النقطة الآن... لنسأل السؤال الأهم: ماذا فعلت السلطة لاحتواء احتجاجات الناس؟ شكلت حكومة لإعادة تدوير نفاياتها في الحكم، ولتثبيت منطق المحاصصات !!!!رائع!!!!!

حسناً. لربما بالغت في توصيفي. ولأقل إنني أحاول التكفير عن هذه المبالغة في اختيار مقولة "اعطوهم فرصة" مساراً حتمياً لتفاؤلي... ولأسأل أسئلة قد تتسع فيها مساحات فرص الحكومة الجديدة. لأسأل مجدداً السؤال "ماذا فعلت السلطة؟".

هل حدّت الحكومة الجديدة من ارتفاع سعر شراء الدولار؟

هل صارحت اللبنانيين حول الوضع الاقتصادي؟ ورياض سلامة الذي قد يبلغ راتبه الشهري 50 مليون ليرة، لا يعلم شيئاً، وهنالك وزير سابق، صاحب مصرف، يدعى مروان خيرالدين، يحمّل اللبنانيين المسؤولية عن الأزمة، معتبراً أننا شعب مدمن على البذخ، ويشدد على ضرورة تحويل ودائع اللبنانيين إلى الليرة اللبنانية.

 حقاً. ماذا فعلت السلطة؟

أرسلت من يقوم بمهمة الترهيب والتهديد؟

وضعت قوى أمن أمام فروع المصارف، بدل أن تضع قوى أمن أمام محلات الصيرفة؟

حاربت غلاء الأسعار؟

لا رغبة لدي لأكون مواطنة في موقع ضحية السلطة. وربما هذا ما حاول المتظاهرون فعله في اليومين الأخيرين: فإذا كان الطور الأول من الغضب يتمظهر كاستراتيجية عبر شتيمة الهيلاهو وما رافقها من شغب ودود، توحي مسارات الأمور أن هنالك من أخذ على عاتقه أن ينتقل من هذه الاستراتيجية إلى استراتيجية أخرى نقيضة.

تقول حنا أرندت في كتابها حول العنف إن "السلطة والعنف نقيضان: حين تحكم السلطة على نحو مطلق، يغيب العنف. ويظهر العنف حين تصبح السلطة في خطر".

والسلطة في لبنان شعرت بقمة الخطر. هنيئاً لنا بذلك، أقلّه مؤقتاً!
(يتبع)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها