الأربعاء 2020/08/19

آخر تحديث: 00:06 (بيروت)

مدينة بفستان عرسٍ ماسي مضرج بالدماء..

الأربعاء 2020/08/19
مدينة بفستان عرسٍ ماسي مضرج بالدماء..
المشكلة الحقيقية هي في ترويج مقولة "بيروت لا تموت" (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease
هكذا تبدأ يومياتنا في آريزونا. وليس في هذا السرد أي مزايدة على وجع أصحاب الفاجعة وضحاياها. في الواقع، حاولت أن أكتب مراراً نصاً ما، يجعلني على قدر مقبول من التعامل مع تفجير الرابع من آب. كتبت نصوصاً قصيرة وجملاً مشرذمة متشظية، فيها الكثير من الانكسار، ثم امتنعت عن تشاركها وخجلت من نفسي.

طبقاتٌ من الذنب 
ولعل ما يجعلني أحاول إكمال هذا النص بشكل مترابط حتى الآن، هو قبولي بتلك المراوحة بين الصمت والشعور بالذنب. والذنب هنا مضاعف. ذنب أننا لم نكن في المدينة حين حصل التفجير، وذنب أننا نكتب عنه ونعبر عن ألم لم يطل أجسادنا ونحن على هذا البعد. أي كلام هذا، أي عين، أي مخيلة تستطيع أن تعيد رصف اللحظات اللاحقة للساعة السادسة والثماني دقائق من الرابع من آب؟ ما من ألم يساوي أولئك الذين فقدوا أحبتهم. ما من فجيعة توازي لحظة ملاقاة بشرٍ عرفناهم وضحكنا معهم، وفجأةً تحولوا أشلاء، ووجب علينا أن نتعرف عليهم عبر إشارة ما رصدناها يوماً ما على جسدهم النابض بالحياة. ما من هول أكبر من رؤية روح لا تعرفها تلفظ نفسها الأخير. مدينةُ بأكملها اكتست بالزجاج المتشظي كأنها - على حد قول الصديق ربيع زهر - فستان عرس مرصع بالألماس. مدينة بفستان عرسٍ ماسي مضرج بالدماء.   

لكنني هنا على بعد آلاف الأميال من بيروت أقضي يومياتي المتعثرة، وأحاول أن أتعامل مع كل هذا الغضب والشعور بالعجز. عجزٌ بحجم عائلي. جمبو. صرت حين يتسرب النوم إلى عيني في الساعة الرابعة أو الخامسة صباحاً من كل يوم، أغفو وذراعي تتمترس بشكل عامودي فوق السرير والهاتف في يدي. حين يسقط الهاتف، أشعر بيدي خدرة. أصحو على أصوات الضحايا من دون أن أحلم بأي شيء، لأجد والدي ووالدتي أمام شاشة التلفزيون. ننتقل من شاشة الى أخرى. بين الساعة الثانية والثالثة بعد الظهر، أشعر من خلال الخفوت التدريجي لتدوينات الأصدقاء على منصات التواصل الاجتماعي، أن بيروت بدأت تحاول أن تنام. حينها أتيقن - كأمٍ هدهدت طفلها لينام قليلاً - أنني أستطيع أن أباشر يومي الاعتيادي في صيف آريزونا الحار، ولا أعرف من أين أبدأ.

المؤلم في الأمر أننا وأهلي - من كان منهم في البيت - نجد أنفسنا نحضر إعادات البرامج ونشرات الأخبار التي شاهدنا أجزاء منها منذ ساعات قليلة. ثم يأتي المساء لنطالع نشرات الأخبار الصباحية في بيروت. هكذا نرى مآسي الضحايا مرات ومرات. حين يعود أخي ووالدي من عملهما، يسألانني - كل منهم على حدا - هل رأيت هذا الفيديو لجنازة سحر؟ هل سمعت بعلي مشيك؟ ووالدة جو عقيقي؟ هل رأيت على فايسبوك حكاية عائلة حتي؟ عماد زهرالدين؟ والفيديو الذي يظهر أن الناس يشيرون إلى الطائرة؟ استغراق كلي في حزنٍ دفين لسنا أهله البيولوجين، لكنه تسلط علينا وبتنا أربابه.

مرت أيام وأنا غير قادرة على القيام بأي شيء مفيد. أشعر بالذنب من أنني لست مع أولئك الذين يمسكون المكانس ويساعدون أهل الجميزة ومارمخايل والكرنتينا، وأرى أصدقاء وزملاء في بيروت يشعرون يالذنب لأنهم بقيوا أحياء.

ما هذه البلاد التي تقتلنا في منازلنا وإن نجونا تقضي علينا ببطء بطبقات وطبقات من الذنب.

كلما اتصلت بخالتي تقول لي: "منيح إنك تركتي لبنان من كم شهر....". لازمة اتصالات والدي وأخي مع سائر أفراد العائلة: "منيح أنه تركتوا هالبلد"... فيشتد الذنب أكثر فأكثر.

عشر سنوات عشتها وحدي في بيروت، بينما كان والداي يمضيان تسعة أشهر هنا للحصول على الغرينكارد. ما يقارب سنوات عشرين أمضاها كل من أخي وأختي وعائلتها في أميركا، ولم تطأ قدمي بلاد العم سام. لم أترك البلاد إلا حين كانت بأمس الحاجة إلي بعد أن شاركت في معظم التظاهرات.

غادرت في الوقت غير المناسب. ذنب آخر يضاف يقابله ذنب مضاد: كيف لا أشعر بالامتنان لأنني هنا محظية بعمل لتسعة أشهر في السنة وبسقف. أرسل رسالة صوتية لنادر الذي غادر بيروت منذ أيام لإكمال دراسته في هولندا، قلت له من دون أن أشعر بفداحة جملتي إلا بعد أن قلتها: "أنا كتير مبسوطة إنك تركت لبنان!!" كتير؟ مبسوطة؟

لم ألغ الرسالة الصوتية. أرسل لي نادر ايموتيكون على شكل قلب. قلبٌ من الواضح أنني لا أستحقه.

كلب نيكولاس الذي غرق
على مسافة من كل هذه الأحاسيس أنصت لهبة، صديقة أختي التي تعمل معلمة في إحدى مدارس آريزونا. بعد فصول الحزن التي تشاركها كل منا، أتى كلب نيكولاس، التلميذ الذي استأذن من معلمته ليترك تطبيق زوم. تسأله هبة عن سبب المغادرة، فيتدخل الوالد ليقول أن كلب نيكولاس يغرق. كنت أنصت بإمعان وأنا مدركة نهاية الحكاية....كلنا يعرفها أو سمع سردية شبيهة لها بشكل أو بآخر. ورغم ذلك، في كل مرة ننصت بإمعان. تبدو  المنظمة التربوية ومديرة المدرسة والمديرة المسؤولة، وكن كخلية نحل في ذاك اليوم، يتحلقن حول المعلمة لإيجاد إجابات ناجعة على الأسئلة التالية: كيف نخبر التلامذة وهم أصدقاء نيكولاس، بموت الكلب؟ وكيف يمكننا التعامل مع نيكولاس في المرحلة المقبلة، وقد يكون تحت صدمة موت الكلب؟ وما هي أفضل السبل للتعامل مع حادث الموت؟ كانت هبة تسمع وتتلقى اللسعات بصمت، لسعةً تلو أخرى، وهي تبتلع كل الصور والفيديوهات التي لم يتسنَ لزميلاتها مشاهدتها حول تفجير بيروت وتمتص غضبها قبل أن تطلب مغادرة الغرفة.  

أسطورة طائر الفينيق والمدينة المنبعثة من الرماد
لا أريد أن أكتب شعراً لبيروت، ولا أن أذكر مآثرها. ليس لأنها لا تستحق، بل لأن أكثر ما ينصف المدن هو السماح لها بأن تكون. أن تكون بكل بساطة. مدينة بكل كينونتها بمعزلٍ عن الأساطير المؤسسة لها وبعيداً من كل السرديات المهيمنة: أي مدينة هذه التي تتنفس دمارها السابق، وتمهد لدمارها المقبل طوال الوقت؟ ابقِ على الأرض يا بيروت. لا تقومي. لا تقومي قبل أن ندرك جميعاً أن لا حاجة لنا لأسطورة طائر الفينيق بعد اليوم. الإبقاء على هذه الأسطورة ليس سوى مناورة للحفاظ على المقبل من مظلومياتٍ سنرضخ لها. قد يكون ما تحتاجه هذه المدينة هو قليل من المكوث في المشهد والاستغراق فيه. مشهدية الخراب المتأتية عن تفجير مرفأ بيروت، ورمزية بقاء تمثال المهاجر سليماً لا يمسه خدش، تستدعي منا جميعاً أن نتلمس سبلاً جديدة للتعامل مع الفاجعة تنأى عن المكابرة والإنكار ومحاولة الهروب إلى الأمام، عبر تدوير سرديات مغرقة في المازوشية.

بيروت ماتت مئات المرات وتمت المتاجرة برمادها بما يكفي. ثم نستخدم عبارة "بيروت لا تموت" من دون أن ندري أن المشكلة الحقيقية هي في ترويج مقولة "بيروت لا تموت"، لأنها فعلياً ككيان مديني ومدني جثة هامدة في موت سريري منذ الأزل. وليس استخدامنا لتلك العبارة إلا مثابة تعويضٍ معنوي مفيد لنا، لكنه لا يحيي مدينة. على العكس هو يبقيها تحت رحمة آلة الإنعاش التي قد تتوقف في أي لحظة. وجب تفتيت كل هذه السير: موت بيروت وانبعاثها ونجاتها من كل الزلازل وإعادة إعمارها. علينا أن نحدد قعراً واحداً وصلناه، أن نقرّ بموت مدينة، بقتلها وأن نعلن الحداد ونمر بكل مراحله. والأهم من هذا علينا أن نحاسب القاتل. وإلا كان مصير بيروت كبطرس في رواية ربيع جابر "بيريتوس: مدينة تحت الأرض". بطرس الذي كان يسقط ويسقط في أعماق الأرض من دون أن يبلغ القعر أبداً.   

سواعدكم.. لتعطيل المنظومة
كأننا نحن الذين لا ننام في بيروت وخارجها، نمد أعيننا جسراً عابراً للحدود والبلاد، كي تصل بيروت إلى بر آمن. أو هذا ما يطيب لي أن أتخيله. الأرق حالنا أينما حللنا. لا يخفف هول ما حدث إلا تضامن الناس في الشارع، وكل أولئك الذين هبّوا لمساعدة أهل المناطق المنكوبة، بمعزلٍ عن هوياتهم وانتماءاتهم. رغم بعض حالات العنصرية، يبقى مشهد آلاف الشابات والشبان بمكانسهم وأدواتهم البسيطة والبدائية الأكثر حضوراً. أدين لكم بالكثير. خففتم وطأة كل هذا العجز. لكن هنالك معضلة أساسية سيكون من الصعب الفكاك منها. جهودكم الجبارة، في نظامٍ أخطبوطي يعتاش وينمو ويعيد ذاته مراهناً على نسياننا وعلى ملكة الاعتماد على أنفسنا وأخذ المبادرة دائماً. هو تحييد آخر للمجزرة التي ارتُكِبت بحقنا. هم يراهنون على مبادرتنا كأفراد وعلى سلوكنا المسالم الذي يجابهه انقسام حاد بين أحزاب متناحرة، لن توفر مجتمعةً فرص تهديدنا وقتلنا وإذلالنا عندما تدعو الحاجة. هذان التآزر والتضامن اللذان تكوّنا بطريقة عفوية وعضوية، يشكّلان في ظل منظومة مشابهة تخديراً آخر ليومياتنا. وإن كنت أميل الى النظر اليه كتخدير إيجابي، فإن هذا التخدير لن يحل أصل الكارثة ولن يحيل إلى اقتلاع النظام. في الوقت نفسه، لم يكن ممكناً لكثر إلا التحرّك ضمن هذه الدائرة، لأن حياة كثر كانت على المحك، ولأنه يحق للجميع التعامل مع الفاجعة بطريقته الخاصة والتوجه غريزياً نحو ما يجيد القيام به. لا أملك أية إجابات أو حلول، وأعلم أنّ الحمل ثقيلٌ جداً في هذه اللحظة. وقد تعجز كل شعوب العالم عن التعامل مع هذه التركيبة. لكن خبث هذا النظام يستدعي البحث عن حلول جذرية لا تضع العمل السياسي جانباً. 


وهنا تقع المسؤولية على كل المجموعات السياسية التي تكوّنت بعد 17 تشرين لتكون أكثر توحداً في لحظات مماثلة، وأكثر وضوحاً في تكوين وإبراز خطاب جامع يكوّن نقطة التقاء لكل المجموعات على الأقل، وينتج عنه فعل جذري إلى أقصى الحدود.  ولن يكون هذا كافياً في ظل المعادلات الإقليمية والدولية. لا تراهنوا على غضب الناس فقط - وهنا، مضحكة ومعبّرة كثيراً المصادرة المزدوجة للسيد حسن نصرالله للغتنا وتجييرها استباقياً على شاكلة تهديد بالحرب الأهلية. ابتكروا استراتيجيات وأطر ممعنة في جذريتها لتعطيل المنظومة الأخطبوطية، بكل السبل المتاحة من دون سقف وحدود، وإلا عدنا إلى ما قبل 17 تشرين. وهذا ما لا يريده أحدٌ منا! 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها