الخميس 2024/04/04

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

الدولة السوريالية اللبنانية

الخميس 2024/04/04
الدولة السوريالية اللبنانية
القانون أعمى بلا عواطف (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

بدأت اللعنة مع اضطراري للذهاب إلى رأس بيروت بالسيارة في ساعات الذروة. هي خمسة كيلومترات لا غير. مع ذلك، يقتضي الأمر نحو 40 دقيقة خانقة بالازدحام ودخان عوادم السيارات وشتائم السائقين، وحرب دواليبهم النزقة، وعدوانيتهم المعدنية، وازدرائهم لأي قانون سير.

ظننت أني وصلت. ما عليّ الآن سوى إيجاد مكان لركن السيارة في أي موقف عمومي. هيهات. ما بين شارع الوردية وشارع عبد العزيز وشارع المقدسي وصولاً إلى شارع بلس. مستحيل العثور على أي موقف خالٍ.

فجأة، وأثناء دوراني العبثي، البطيء والمرهق، في تلك الشوارع المحشوة بالبشر والآليات والدراجات التي تشبه العفاريت النارية، رأيت سيارة تخرج من مكانها بمحاذاة الرصيف. سعادة عابرة بهذه العناية السماوية، وهذا اللطف الإلهي الذي أنعم عليّ أخيراً بالحظ ومنح سيارتي ركناً وموقفاً مريحاً.

كانت المهمة من وراء ذهابي إلى رأس بيروت تستحق كل هذا الشقاء: مناسبة ثقافية في قلب الجامعة الأميركية. ما أن أجتاز البوابة حتى أجد نفسي في عالم آخر. كأني سافرت إلى بلد بعيد. بل وإلى زمن مختلف. انتقل من مكان فوضوي ملوث وموتور وملتهب، إلى أرض الهدوء والنظافة والدعة. حديقة هائلة بعمارات تنضح جمالاً. حتى إيقاع المشي يتغيّر ويصبح متمهلاً ورزيناً. الهواء هنا أنظف ويمكنني أن أتنشقه بلا تحفظ، الأصوات أيضاً تخفت وتتبدد. أتخيل للحظة أن تصير الجامعة الأميركية دولة مستقلة داخل لبنان، كإمارة موناكو مثلاً.

الأروع من ذلك، تلك الساعة التي قضيتها في متحف الجامعة، المذهل بمحتواه. كل الطبقات الأركيولوجية من الحقبة الفينيقية والفرعونية والفارسية والأشورية والهلينيستية والرومانية والبيزنطية والعربية- الإسلامية، انتهاء بالحقبة المملوكية فالعثمانية.. موجودة هنا بنماذج من كنوز ولقى ومنحوتات وآثار لا مثيل لها. ثروة حضارية جمعتها تلك الجامعة العريقة على امتداد جهود فرقها وبعثاتها طوال أكثر من قرن. ولست أدري لِمَ هذا المتحف غير موجود على الخريطة السياحية.

مقابل هكذا سعادة سيأتي العقاب. محضر ضبط ملصق على الزجاج الأمامي لسيارتي. مخالفة وقوف في مكان ممنوع. أبحث على امتداد الرصيف عن إشارة المنع فلا أجدها. ربما اقتُلعت في خضم الإهمال المزمن لشوارع العاصمة. أجد العزاء في عشرات السيارات التي تعرضت للعقاب نفسه. ثمة دركي قام بعمله على أكمل وجه.

قضيت عمري مصاباً بفوبيا الإدارات الرسمية اللبنانية. رعب كامل يتملكني قبل الذهاب لإنجاز معاملة مهما كانت بسيطة. تتنكب زوجتي مهمة دفع الغرامة. تستيقظ صباحاً وتتوجه إلى "ليبانون بوست" (شركة البريد): "لا يوجد طوابع، عليك المجيء بعد يومين". يتكرر الجواب ثلاث مرات خلال 15 يوماً. وتنتهي المهلة القانونية.

هناك محضر ضبط بغرامة مالية لصالح الدولة اللبنانية، أريد أن أسددها. لكن ذلك مستحيل بغياب الطوابع التي تعجز الدولة إياها عن طبعها وتوفيرها. ما العمل للخروج من هذه المعضلة "الكافكاوية"، وقد بات هناك غرامة إضافية بسبب تأخري؟

ينصحني أحدهم بالذهاب إلى قصر العدل، والبحث عن قاضٍ يتولى إنجاز المعاملة. طبعاً، سيكون ذلك بمثابة دخول في متاهة جديدة. خصوصاً أن النصيحة متبوعة بأخرى: عليك أن تجد واسطة لتسريع المعاملة فلا تنتظر أياماً وربما أسابيع.

أنتبه لمشكلة أخرى، رخصة السواقة منتهية الصلاحية منذ سنتين. هذا يعني إذا اكتشفوا الأمر أثناء معاملة دفع الغرامة، عقوبة أخرى ربما. كانت مصلحة تسجيل السيارات وتجديد الرخص معطّلة طوال هذه المدة. ليس ذنبي. لكن القانون أعمى ونادراً ما يتعاطف أو يتسامح، خصوصاً مع شخص مصاب بفوبيا الدخول إلى إدارة رسمية، حيث على نحو خفي يدرك موظفوها أنهم وجدوا الضحية المثالية للتنكيل به.

لن أذهب إلى قصر العدل. سأنتظر دورية الدرك تطرق بابي، لتأخذني مخفوراً إلى المحكمة. سأتشاجر مع القاضي على الأرجح، ما سيضاعف عقوبتي إلى سجن. وهناك في المهجع القذر والمكتظ، سيتربص بي عتاة المجرمين وسأتلقى طعنة نجلاء تنهي حياتي.

شكراً أيها الدركي الذي ألصق محضر الضبط على زجاج سيارتي اللعينة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها