الخميس 2024/03/28

آخر تحديث: 14:20 (بيروت)

جنوب لبنان والشيوعيون والثمانينات وفق يحيى جابر وأنجو ريحان

الخميس 2024/03/28
جنوب لبنان والشيوعيون والثمانينات وفق يحيى جابر وأنجو ريحان
بحركة كوريغرافية مختصرة وموحية، تسيطر ريحان على فضاء مسرحها (زكريا جابر)
increase حجم الخط decrease

قد يكون يحيى جابر من أعند الذين يقاومون موت بيروت. يعاكس انحطاطاً عمرانياً وثقافياً، فيضيء مسارحها على نحو غير مسبوق في تاريخ المسرح اللبناني. ثلاث مسرحيات في آن واحد، وبعروض لا تتوقف على مدى سنوات. والأهم، "عودة" الجمهور إلى المسرح بشغف وإدمان وإخلاص.

بمعايير هذه المدينة وأحوالها، يجترح جابر معجزة صغيرة: مسرح يومي دائم، يمنح الحياة والضوء في قلب الليل الكئيب لهذه العاصمة.

على امتداد عقد كامل، تكرس هذا المختبر المسرحي أو "الريبرتوار" القائم على خشبة شديدة التقشف والممثل الواحد (المونودراما)، وعلى بطولة النص المكتوب بسكاكين الذاكرة ودموعها وضحكاتها.

وفي كل عرض نشهد واحدة من أجمل المعارك بين النص والممثل/ة. توازن القوة بينهما هو سر مسرح يحيى جابر. والغلبة مضمونة لمتعة الفرجة.

أمس، بدأت عروض "شو منلبس؟" على خشبة "مسرح المدينة". ثالث أعمال أنجو ريحان مع هذا المخرج والكاتب. لحظة خطرة لممثلة أدهشتنا أول مرة في "اسمي جوليا"، ووصلت إلى ذروة النجاح في "مجدرة حمرا"، وبات معها سؤال أو امتحان كيف تبقى في ذروتها. وهي أيضاً لحظة عصيبة لجابر نفسه بعد نحو عشر مسرحيات، وخطر الرتابة أو Deja Vu.

من اللحظة الأولى، بحركة كوريغرافية مختصرة وموحية، تسيطر ريحان على فضاء مسرحها. هي الأم نجوى كما هي الابنة يارا (وشخصيات أخرى كثيرة)، لتبدأ الحكاية من هناك، من قرية "النهر" اللصيقة بالنبطية. ومعها يفتح يحيى جابر صندوق ذاكرة جديد. هذه المرة، سيرة عائلة شيوعية في الجنوب اللبناني. خطر إضافي يتبناه هذا الثنائي بشجاعة جذابة.

التاريخ المكتوم والدامي لليسار، خصوصاً في المجتمع الشيعي الجنوبي، لم يتجرأ أو لم يعرف أهل اليسار قوله وتدوينه. بل ويتم عمداً طمسه وإغفاله أو تشويهه وفق أهواء سياسية متهافتة للورثة. وبدورهم، خصوم ذاك اليسار برعوا في دفنه وإدراجه في ثقوب النسيان، أو في أقبية "التوبة".

السحر كله أن الرواية-السيرة على لسان الإبنة والأم. حساسية الأنثى إذ تروي ذاك التاريخ العريض المحتشد بالحرب والاحتلال والمقاومة والتهجير والاغتيالات والاعتقالات والانقلابات السياسية والأيديولوجية العنيفة. وكل هذا منصهر أيضاً بسيرة شخصية بالغة الفردية للطفلة المقبلة على مراهقتها وشبابها، وتختبر انقلابات هوياتها وجسدها وأفكارها وعواطفها. سيرة تندمج فيها لحظة الاستحمام بكل تفاصيله مع لحظة سياسية كبيرة، بسلاسة تقشعر لها الأبدان. إنه السحر الأنثوي الخالص في رؤية العالم واختباره.

كل ذاك الصراع الهائل والذي يستمر اليوم بأشكال كثيرة، الذي شهده الجنوب اللبناني خصوصاً، بين قيم اليسار والعلمانية والحداثة ومعنى "المقاومة" ومنطلقاتها وغاياتها من جهة، وقيم التقاليد والتدين المؤدلج والأصولية ومصادرة تلك المقاومة وتبديل معناها ومبتغاها، ترميه أمامنا مسرحية "شو منلبس؟" بما يضمره سؤال اللباس نفسه عن الهويات وصراعاتها الشديدة العنف. ليس هذا وحسب، المسرحية هي أيضاً كشف وتجاوز لأبأس تنميط عن ذاك الجنوب، المقولب في صورة واحدة جامدة. إنه هنا الجنوب الذي نعرفه، المجتمع الأشد حيوية وقلقاً وتنوعاً ورحابة، بقدر ما كان موطن الألم والحسرات والمظالم.

السحر الآخر أن يحيى جابر ليس مؤرخاً، بل هو الشاعر إذ يوقظ الذاكرة ويدونها بلغة الحب والتعاطف لتبوح بأسرارها. فتكون الحكاية رعشات لغوية وتعبيرية صافية. وفي هذا العمل تحديداً تتعزز شاعرية جابر في عصب كتابته.

أصوات أنجو ريحان، لهجاتها ولكناتها، أجسامها الكثيرة، أعمارها المتعددة، جميعها حية ومجسّدة بوجوهها وملامحها، في ميتامورفوز لا يتوقف، أشبه بكوريغرافيا لا هي رقص ولا هي تمثيل. وبرشاقة وخفة تخلوان من أي مبالغة أو افتعال. أي متعة أغرقتنا بها ونحن نشاهدها هكذا: بشر وأمكنة وحكايات وأزمنة في جسد واحد.

هذا العمل أطمع بتحويله إلى فيلم سينمائي أيضاً، فهو مكتوب وممثَّل بحساسية بصرية أخاذة. ثمة مشاهد كاملة نراها كبانوراما سينمائية. عمل مكتوب وممثَّل بمونتاج بمنتهى الدقة والحذاقة. المعالجة الدرامية مشغولة بإيقاع سينمائي أيضاُ.

ربما هذا ما نظنه بسبب كثافة النص وشاعريته، وبالتأكيد بسبب ما اقترفته أنجو ريحان من طغيان تمثيلي فتاك.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها