الخميس 2024/03/21

آخر تحديث: 12:46 (بيروت)

لن أزور أمي في بنت جبيل

الخميس 2024/03/21
لن أزور أمي في بنت جبيل
بنت جبيل على خط النار وتحت القصف (Getty)
increase حجم الخط decrease

لن أستطيع زيارة قبر أمي اليوم، كما يليق بي أن أفعل بـ"عيد الأم". فبنت جبيل على خط النار وتحت القصف.. وربما سيارتي تشبه سيارة أحد الملاحقين من تلك الطائرات الروبوتية الشريرة.

أمي، ماري فرح، ليست من بنت جبيل. ابنة الأشرفية الأرثوذكسية نصف الأرمنية، بالكاد زارت البلدة الحدودية طوال حياتها مرات قليلة، كان آخرها في خريف 1975، حين دُفن زوجها المقتول (أبي) في مسقط رأسه.

وهي كما يجدر بأي امرأة شابة وجميلة لم تبق أرملة مدة طويلة. تزوجت مرة ثانية لمدة ثمانية أعوام، ومرة ثالثة لأكثر من ثلاثين عاماً قبل أن تترمل وتصبح وحيدة في بيتها.

في أواسط الستينات، كانت بيروت مدينة خرافية، مغامرة المغامرات، وأمي المراهقة المأخوذة بسحر الحياة في العاصمة وبالسينما والسياسة والفن والقصص الرومانسية، ستنسخ مفتاح بوابة مدرستها الداخلية هنا في أعلى تلة الأشرفية، وستهرب منها لتلاقي محمد، الشاب الذي هجر بنت جبيل كسائر شبان الجنوب نحو بيروت، أرض الفرص الجديدة والحرية.

قصة حب ساذجة ومراهقة وحقيقية تليق بذاك الزمن. لكنها أيضاً قصة سياسية عن وعود تلك الحقبة اللبنانية، حين بات الزواج المختلط طائفياً يجد فضاءه في بيروت أو بالأحرى في جمهورية راحت توفّر مساحة للأفراد خارج الانتماء الطائفي، وتشجع نسبياً على الخروج من عصبية الجماعات وهوياتها، وتتيح لهؤلاء الأفراد انتماء جديداً، قوامه الدولة المدنية الحديثة.

ماري، وغالباً "مارو" حسب اللفظ الأرمني، عاشت ومحمد حياة فقيرة على تخوم العاصمة، لكنهما استمتعا بنمط حياة مفتوحة فائقة الحيوية، كما معظم لبنانيي ذاك الزمن الذي غالباً ما يوصف بأنه الذروة التي لن تتكرر. وهي دفعت ثمناً باهظاً لخيارها بالزواج من مسلم، عندما قاطعتها أسرتها.

بانتسابهما إلى حزب علماني، وجدا حضناً أكبر من عائلتيهما، مجتمعاً جديداً من العلاقات والتعارف والتفكير والصداقات. كان ذاك أيضاً جزءاً مما تقدمه بيروت كنوع "حديث" من الانتماءات والصلات والهويات.

قُتل محمد في مطلع الحرب. مارو العشرينية ستنتقل وأطفالها الثلاثة إلى "بيروت الغربية". الحزب سيشجعها على الزواج من رفيق حزبي هو بدوره خسر زوجته المسيحية التي هجرته لأسباب سياسية.

ما أن شارفت الحرب على الانتهاء حتى تطلقت، كأنها تودع على طريقتها زمن السلاح والأحزاب وذاك المجتمع الذي بدأ يأفل. اطمأنت على أولادها الذين راحوا يستقلّون، وتزوجت مرة ثالثة كمشروع تقاعد وراحة، وكاستعداد لحياة أخرى، تطوي فيها الحسرة على الستينات والسبعينات، وتختتم بها مآسي الثمانينات.

كانت سيرتها هكذا، تشبه سيرة بلد بتحولاته وانتقالاته وانقلاباته وطيشه وجماله.. قصة رومانسية سرعان ما انفجرت على نحو تراجيدي، حياة اقتحمها الموت كالصاعقة، وتبرعمت مجدداً كمعجزة.

هناك، في المستشفى، قبل يوم من وفاتها، كان قلب أمي يخونها. لم يفارقها رعب انفجار مرفأ بيروت، وخراب الأشرفية، متذكرة كل انفجارات الحروب التي مرت. لم تتوقف عن سرد الذكريات. سأتجرأ وأسألها: "بعد عمر طويل، أين تريدين أن ترتاحي؟". لم تتردد ولو لثانية واحدة: "حدّ محمد".

لن استطيع الذهاب إلى بنت جبيل، لأزور مارو ومحمد. فهناك لا تزال الحرب.. وقصة لبنان وبيروت والستينات والحب والرومانسيات ماتت عام 1975.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها