الخميس 2024/03/14

آخر تحديث: 14:32 (بيروت)

"صحراء" وسط بيروت

الخميس 2024/03/14
"صحراء" وسط بيروت
قلب العاصمة الذي ما عاد نابضاً (Getty)
increase حجم الخط decrease

اليوم، ذكرى 14 آذار 2005. لسنا هنا لاستعادة سياسية، أو لحنين ما، أو لمراجعة تاريخية للحدث. ما يهم اليوم من ذاك المشهد التاريخي، هو التفكر بالمكان نفسه ودوره المستعصي أو الممكن في تأليف اجتماع لبناني، وفي التجسيد الجغرافي لفكرة الجمهورية.

في كانون الأول عام 1975 حدث "السبت الأسود" في وسط بيروت. العشرات قُتلوا بسبب هويتهم الطائفية. كان ذاك إيذاناً بإخلاء هذا "الوسط" الذي يجمع مكانياً ورمزياً اللبنانيين، ويشكل صرّة العاصمة الواحدة، ومركز الكيان اللبناني، ونقطة الارتكاز فيه.

بخلو الوسط ودماره، بقي لبنان منشطراً وعصياً على التوحّد 15 عاماً متواصلة، حتى حين كانت الحرب الأهلية في فترات هدنة وخمود. فلم يشعر اللبنانيون أنهم قادرون على التواصل أو أنهم في بلد واحد بغياب ذاك الفضاء الجامع الذي يمنح بيروت لقب "العاصمة"، ويتيح للمقيمين الشعور أنهم في كيان سياسي وبلد واحد. هكذا، دلّ مصير ما كان يسمى "ساحة البرج" وأحياناً كثيرة "البلد" (كتعبير فعلي عن الدور)، على مصير الجمهورية.

من الممكن الافتراض أن تعمّد إبقاء "الوسط" مدمراً وخالياً لأكثر من 15 عاماً، كان من أجل الحيلولة دون أي تلاقٍ بين اللبنانيين. ففي المرات النادرة التي فتحت فيها الطرق المؤدية إليه وأزيلت المتاريس والعوائق آنذاك، تفشّت بين اللبنانيين، وخصوصاً عند سكان بيروت، تلك الرغبة للخروج من الانقسام والتوق إلى المصالحة والتلاقي، والرجوع بالزمن إلى ما قبل نيسان 1975، حين كانت الساحة القلب النابض لبلد ناهض ومزدهر.

هذا بالضبط ما سيكون "المرجعية" الأولى لمشروع إعادة الإعمار بعد اتفاق الطائف، حين كانت المخيلة السياسية تعوّل على أن "الوفاق الوطني" يتجسد بإعادة بناء وترميم ذاك الوسط بالذات.

الوسط بمعماريته وصورته الجديدة، بدا سياحياً أكثر من كونه أهلياً، رغم أن الحكومة استوطنت في السراي، ومجلس النواب عاد إلى ساحة النجمة، كذلك مقر البلدية، وبعض الوزارات، وببطء أخذت المؤسسات الكبرى والوكالات وجملة من المصالح تستقر فيه.

بدا كأنه جزيرة، طالما أن العاصمة على امتداد عقدين منصرمين خضعت لتحولات عمرانية وديموغرافية، تكرس انفصالها إلى شطرين متمايزين على نحو خفي لا يلتقط إشاراته إلا السكان أنفسهم.

مع ذلك، بمزيج من أدواره المستجدة، السياحية والخدماتية والاقتصادية والاجتماعية، استطاع وسط بيروت أن يشكل فضاء للتواصل اليومي. وهذا ما أتاح -بالمعنى السوسيولوجي- حياة بيروتية جديدة، عمادها نخبة اقتصادية وثقافية، تتجاوز إلى حد ما ذاكرة الانقسام الأهلي. وبين حياة الليل ونشاط النهار، بات ممكناً في أواخر التسعينات ومطلع الألفية الجديدة، ملاحظة نمط علاقات جديد يترجم نفسه في الصحافة والثقافة والسياسة، كما في تقاليد الخروج أو التنزه أو الترفيه أو مزاولة الأعمال والتعارف.. إلخ.

في هذه البوتقة، بدأنا نتلمس "حواراً" مهد للغة جديدة في العاصمة، أو بالأحرى مزاج يطمح لحد أدنى من الوحدة الوطنية، خصوصاً بعد العام 2000، أي بعد تحرير الجنوب وما جلبه من أمل فعلي باستعادة كامل الجغرافيا اللبنانية.

على هذا المنوال، عاد وسط بيروت في المخيلة العامة هو الفضاء المرشح لجمع اللبنانيين أو الساحة التي ترمز إلى وحدة العاصمة والكيان.

ولذا، كان بديهياً أن يكون المكان الذي حدث فيه 14 آذار 2005.

لكن انقسام الوسط إلى ساحتين، أفضى إلى انطفاء كل أمل بـ"وحدة وطنية"، وثبّت التباعد السياسي العميق. وهذا ما سيمهد لاحتضار بطيء وأليم للجمهورية الثانية.

15 عاماً أخرى مرت، والوسط شبه خالٍ ومهجور. ومرة جديدة أصبحت صورته الكئيبة انعكاساً جلياً لفشل الدولة والمجتمع.. إلى 2019، حين ما عاد محتملاً شبح الكارثة، فخرج كثرة من المواطنين تمرداً وغضباً واجتمعوا في الساحة مجدداً، علّ ما عجزت عنه 14 آذار يتحقق في 17 تشرين.

أيضاً وأيضاً، صار المكان فضاء فعلياً ومتخيلاً للفكرة اللبنانية وللجمهورية وللعاصمة. ولشدة خطورة الفكرة، كان القمع والبطش بالساحة وأهلها، حتى تم إخلاؤها وتصحيرها.

وعلى صورة هذا التصحر وفراغه، نرى لبنان الدولة اليوم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها