الخميس 2024/02/29

آخر تحديث: 13:33 (بيروت)

حرب غزة وجحيم لبنان

الخميس 2024/02/29
حرب غزة وجحيم لبنان
اللبنانيون لا هم في سلم ولا في حرب (Getty)
increase حجم الخط decrease

القتيل يعيش الرعب فقط في الثواني التي تسبق مقتله الفجائي. وأحياناً، إن أتى الموت غدراً، لا يدري ولا يشعر بشيء قبل انتقاله إلى عالم الغيب.

والذين يهددهم الموت، وهم تحت وطأة حرب معلنة، سرعان ما "يتكيفون" مع شروط البقاء على قيد الحياة، فيتجاوزون شلل الرعب والخوف إلى مرحلة الصراع وتحدي الموت: البحث عن أماكن آمنة، تدبير المؤن، التعاون والتكافل بين الأفراد والجماعات، جمع المعلومات وتقصيها، معرفة طرق الهروب، الاحتفاظ بالممتلكات الثمينة والأوراق الشخصية، التخلي عن الرفاهيات والكماليات.. وغالباً ما تتقد المخيلة وتستنفر الغرائز على نحو مثير للدهشة لتوفير سبل النجاة. وفي معظم الأحيان، يتحول سكان مناطق الحرب إلى "خبراء" في معرفة الأماكن الشديدة الخطورة أو الأقل خطراً أو الآمنة نسبياً، ما يتيح لهم التحرك أو الاختباء وتجنب الموت. بل والاستمرار في حياة يومية شبه عادية، خصوصاً في بلدان الحروب الأهلية العربية، كأن نرى زحمة سير وأسواقاً مفتوحة وحركة طبيعية للبشر، فيما المعارك الطاحنة تدور على بعد كيلومترات قليلة.

خبرات الحروب الأهلية التي حصّلها العراقيون والسوريون والليبيون واليمنيون والسودانيون، وقبلهم اللبنانيون، جعلتهم هكذا "محترفي" البقاء على قيد الحياة، وعنيدين في تدبير عيش "طبيعي" واستئناف يومياتهم بكل ما فيها، كأن يقيموا الأعراس والحفلات وأن يتسوقوا ويستهلكوا ويتسلوا.. إلخ.

ينتقل إنسان الحرب من نمط اليوميات الطبيعية إلى نمط مقاومة الموت بسرعة مذهلة، تكشف تلك القابلية الخارقة للتأقلم.

لن أنسى مثلاً، هذا الرضى التام بتناول نوع واحد من الطعام طالما أنه الوحيد المتوفر، في أثناء حصار النبعة حين كنت طفلاً مطلع عام 1976. أو هذا الفرح الفائق بكيس الثلج وقنينة الويسكي وحبات البندورة شبه المتعفنة أثناء حصار بيروت في صيف 1982.   

الأطفال مثلاً، سرعان ما يحولون الحرب إلى لعبة. منهم من يصير من هواة جمع الشظايا بأشكالها العجيبة، أو خرطوش الرصاص، أو يصنعون من أخشاب وخرضوات معدنية أسلحة لعب، ليقلدوا الحرب الفعلية. الأمهات أيضاً يلجأن إلى إنشاء ما يشبه مطبخ تعاوني مثلاً، أو إلى اقتصاد تبادلي لتوفير الغذاء والضروريات الأخرى، الرجال يتحولون أيضاً إلى "قبيلة" محلية، لتوفير التعاون والحماية والمؤازرة..

على نطاق أوسع، ينشأ مجتمع واقتصاد حرب مختلف كلياً عن ذاك الطبيعي. العلاقات الإنسانية تتخذ بعداً وشروطاً على صلة مباشرة بتأمين التكافل والتعاطف، بما يكسر أحياناً التمايزات التقليدية أو التحفظات الأخلاقية والخصوصية الشخصية والمنزلية. واقتصادياً، نرى تبدلاً في الأولويات والحاجيات المطلوبة، تصبح الأفران مثلاً أولوية مطلقة، أو تأمين مولدات الكهرباء والوقود، والإقبال على المعلبات، والبحث عن مؤن الحبوب، والأهم توفير مصادر المياه.

دوماً، يصاحب التهجيرُ الحربَ. هذا أيضاً يتيح لقسم كبير من السكان مخرجاً نحو الأمان، رغم محنة الاقتلاع والتشرد. ويستطيع هؤلاء أيضاً أن يبتدعوا وسائل وأساليب الكيف وتأمين سبل العيش، ولو بظروف بالغة القسوة والتقشف. وأحياناً يتحول التهجير إلى هجرة دائمة توفر فرصاً لحياة جديدة قد تكون أفضل من السابقة.

على أي حال، المزيج الفتاك من العنف والرعب والفظاعات وكثرة الموت والآلام التي تحل بمجتمعات الحرب، لا يمكن علاج آثارها بالنسيان. تبقى غائرة ومؤثرة ومؤذية لأجيال وأجيال.

نرى هذا كله اليوم في غزة، لكن وفق نمط لم نألفه من قبل: حرب في منطقة محاصرة كلياً، بلا أي مخرج. ويمكن القول إنها حرب من طرف واحد. عدو خارجي لا ينقصه إلا قنبلة نووية أو سلاح كيماوي لتكتمل جريمة الإبادة على نحو تام.

والفظيع في هذه الحرب، أنها تنتمي إلى حروب قديمة أكثر مما هي حديثة. فهدفها ليس فقط الانتصار العسكري، أو الاحتلال أو حتى تغيير سلطة، بل "انعدام الحياة". هي تذكرنا مثلاً بما فعله الاسكندر بمدينة صور قبل ألفين وثلاثمئة عام تقريباً. والمثال "الحديث" لما يفعله الإسرائيليون بغزة، قد نجده فقط في ليننغراد (1941-1943)، أو وارسو (1944): الحرب على السكان أنفسهم.

يبقى هناك أمر مستجد، شديد الوطأة وغير قابل للتكيف معه، حيث الرعب ليس مصدره مما يحدث بل من الاحتمال الدائم بحدوثه. الخوف من الموت وترقبه من دون توقف. العيش في البرزخ. هناك بين الحرب واللاحرب.

يعيش اللبنانيون منذ خمسة أشهر حالة برزخية، لا هم في سلم ولا في حرب. ينامون وتحت سريرهم الوحش. لا سبب للنزول إلى الملاجئ ولا طمأنينة في غد طبيعي. لا سبب للتشرد ولا أمان في البقاء. محاصرون بلا يقين منهك.

هذه حرب من نوع جديد لم يعرفه اللبنانيون من قبل بهذه الشدة والثقل. الرعب من الموت هنا ليس لثوان، ولا هو موت فجائي "مريح"، ولا هو معارك وقصف وغارات يحيلنا إلى "مقاومين" للبقاء أو هاربين للنجاة. بل رعب صامت ومديد وشبحي يستحوذ على المستقبل بأسره. جحيم بلا نار.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها