الخميس 2024/02/15

آخر تحديث: 13:50 (بيروت)

زمن اليسار الجديد.. والقديم أيضاً

الخميس 2024/02/15
زمن اليسار الجديد.. والقديم أيضاً
كأن زمن العقائد انتهى (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

واحدة من أسوأ ما في الحياة السياسية اللبنانية اليوم، عدم وجود أي مفكر سياسي في أي حزب لبناني. الأحزاب اللبنانية بأسرها ليس فيها مفكر واحد. ظاهرة تستحق البحث والتأمل.. والخوف.

بالطبع، هناك "مفكرون"، لكنهم خارج أي انتماء حزبي، وبالكاد لهم تأثير في الفضاء العام.

فعلى امتداد ربع قرن مضى، احتل "المستشار" مكان المثقف المنظّر. واستغنى كل أمين عام أو رئيس حزب وتيار وحركة عن أولئك الذين ينتجون الأفكار ويضعون الصيغ الأيديولوجية. وتدريجياً، صادر محترف الإطلالات التلفزيونية ومدبج البيانات، مكان المستشار والمفكر في آن معاً. فهو الأكثر إخلاصاً والأقل إزعاجاً والأبرع تسويقياً. النجومية التلفزيونية أشد إقناعاً من أي فكرة صائبة.

وعلى هذا المنوال، ليس في الأحزاب اللبنانية راهناً سوى ضحالة سياسية تكتفي بالعصبيات المضمونة الولاء للزعيم أو الأمين العام أو الرئيس الدائم لهذا الحزب أو ذاك. فيما الحزب نفسه يقوم فقط على كاريزما القائد وحربائيته.

كأن زمن العقائد التي كانت كفيلة بإنشاء روابط حديثة أو تنظيمات تعبّر عن النزاعات السياسية والاجتماعية والتطلعات الجديدة، انتهى إلى ارتداد قبلي-طائفي لا شفاء منه، ولا حاجة معه لأفكار جديدة ولا لأفراد لهم عقولهم المستقلة.

وعلى الرغم من أن اللبنانيين –كما يشاع- مسيّسون حتى العظم، إلا أن "السياسة" هنا ما عادت سوى تكتيكات شبه حربية بين زعماء طوائف مقفلة ومغلقة على هوياتها. لا شيء يتحرك فيما بينها أو يتجاوزها.

وتُوِّج هذا المسار بتولي الحزب الديني الأصولي والمسلح، المهيمن كنموذج غالب، والكاره للحداثة برمتها (إلا منتجاتها التقنية، ومؤخراً كره الهاتف الخلوي في الجنوب والكاميرا في الثورات السورية واللبنانية) طرد الأفكار و"البدع" أو حتى قتلها هي وأصحابها إن لزم الأمر. وهذا ما أصاب آخر محاولة لكسر الانسداد والخروج من الاستنقاع السياسي في "عامية" 2019، التي كانت بدورها قاصرة عن أي أفكار متماسكة وجامعة.

وحال لبنان هذا معاكس تماماً لتاريخه السابق على جمهورية الطائف. فحتى قبل نشوئه، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، تنكب المفكرون والمثقفون والأدباء تأليف الجمعيات والتنظيمات وتصدروا الحركات السياسية وأنشأوا الصحف والمجلات، وساهموا في ولادة أحزاب، وأسهموا حتى في كتابة الدستور. بل إن الفكرة اللبنانية وجدت صيغتها الأيديولوجية على يد مفكرين أولاً.

والحقبة الممتدة من الثلاثينات وحتى أواخر السبعينات، بقدر ما هي عصر لبنان الحداثة والتحديث والصراعات السياسية الصاخبة، بقدر ما هي عصر الأحزاب العقائدية الكثيرة، التي كان المثقفون والمفكرون نواتها ومحركها وقادتها. كان إنتاج الفكر السياسي أشبه بعمل يومي، ومتصل بالحياة العامة على نحو عميق. بل إن السياسة اللبنانية كانت عبارة عن سجالات فكرية وأيديولوجية وثقافية شديدة التأثير ليس على المجتمع اللبناني وحده، بل على العالم العربي، وعلى نحو يستنفر باستمرار الأنظمة العربية المتخوفة من فاعلية تلك الأفكار الآتية من بيروت.

كل هذا حرضني على الانتباه إليه كتاب فواز طرابلسي "زمن اليسار الجديد" (دار رياض الريس، 2023)، الذي يروي بعضاً من سيرته السياسية بكثير من التلقائية والتذكر غير المنضبط والمزاجية الشخصية. وفي هذا بعض من متعة قراءته لا شك، والكثير من التعجب والاستنكار أيضاً، خصوصاً في تناول الأحداث الكبرى والجسيمة.

فطرابلسي، المؤرخ والباحث والمفكّر الماركسي، هو أولاً "المناضل" السياسي (ولا يزال). وكما غيره من أنداده تنقل بين القومية العربية والاشتراكية أو جمع بينهما، أو غلّب واحدة على أخرى، أو تفرع إلى واحدة من فروعها الكثيرة والمتباينة. لكن من الواضح أنه بقي حتى يومنا هذا ماركسياً عنيداً وفق نسخة شخصية على الأرجح. وما يعنينا في هذه السيرة "النموذجية" لشطر كبير من المثقفين اللبنانيين اليساريين والعروبيين، هو كثافة الحياة التي عاشوها، والفائضة بالتجارب الفكرية والسياسية بقدر امتلائها المذهل بحياة اجتماعية وثقافية. كأن زمنهم مضغوط بأزمان كثيرة ومتدفقة بالأحداث والاختبارات من غير راحة أو استقرار.

وما أذهلني بعد كل هذه السيرة لابن عائلة برجوازية كاثوليكية، تلميذ مدرسة برمانا الشهيرة التي كانت تديرها إرسالية "الكويكرز"، وطالب الجامعة الأميركية في بيروت، ثم الجامعات البريطانية والفرنسية، المنغمس في تأسيس "لبنان الاشتراكي" ثم "منظمة العمل الشيوعي" والمنخرط في "الحركة الوطنية" وفي عقيدة الحرب الشعبية الطويلة الأمد لتحرير فلسطين، والمؤثر في تجربة الحكم اليساري في اليمن الجنوبي، والصديق الحميم مع ما لا يحصى من المثقفين العرب وقادة الحركات اليسارية وصاحب العلاقات مع أوساط حاكمة في العراق واليمن، والمترجم لجون ريد وأنطونيو غرامشي ولينين واسحاق دويتشر وجون برجر ويانيس ريتسوس وإدوارد سعيد.. أنه لم يشر مرة واحدة في هذه السيرة إلى الامتياز الذي منحه إياه "الكيان اللبناني" لأن يكون على الصورة التي عاشها وصارها. أو لم يعر أهمية ملحوظة لما وفرته التجربة اللبنانية (الليبرالية؟) بكل ما فيها (حريات، اقتصاد حر، تداول السلطة..)، ليكون هو فواز طرابلسي الممتلئ التجربة والتعلم والتثقف والتفكّر، وأن يكون هكذا حراً في تكوين تنظيمات سياسية أو إصدار مجلة بديعة (بدايات). بالضبط كما لم يعر في هذا الكتاب على الأقل، الأهمية اللازمة للآثار الكارثية التي جلبتها الأحزاب التقدمية واليسارية والقومية والمنظمات المسلحة إلى بلدان عربية كثيرة، أولها لبنان. التأسف وحده ليس كافياً.

وأغلب الظن أن تخصيص فصل كبير في نهاية كتابه، لمساجلة محسن ابراهيم، الأمين العام التاريخي لمنظمة العمل الشيوعي، إنما جاء تعويضاً عن مراجعة الذات. كأنما محسن ابراهيم يبدو هنا الممثل البديل على مسرح محاسبة الأنا، كي تظل تلك الأنا الأصلية بصورتها البهية.

وهذا أيضاً نموذج لما اقترفه معظم مفكري ومثقفي ذاك الجيل الاستثنائي. والأخطر أن الجيل الجديد من ناشطين و"مؤثرين" (حسب لغة السوشيال ميديا) يبدأ مجدداً من غير قراءة ذاك التاريخ وبلا مراجعة لتلك الذاكرة والتجارب. كأننا محكومون بـ"عود على بدء" كابوسي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها