الخميس 2024/01/11

آخر تحديث: 13:51 (بيروت)

العودة إلى اتفاقية "الهدنة": خطيئة 56 عاماً

الخميس 2024/01/11
العودة إلى اتفاقية "الهدنة": خطيئة 56 عاماً
توقيع اتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل في آذار 1949 في رأس الناقورة (Getty)
increase حجم الخط decrease

ماذا لو قيض لمطلب الحكومة اللبنانية، القديم جداً والمنسي أو الممنوع.. والمستجد الآن، بالعودة إلى "اتفاقية الهدنة" الموقعة عام 1949 بين لبنان وإسرائيل، أن يتحقق؟

ماذا لو عاد الجيش اللبناني وحده، القوة العسكرية المنتشرة في جنوب لبنان وعلى الحدود، كما كان الحال قبل العام 1967، وفق ما أوحت به الحكومة اللبنانية أخيراً؟

إن تحقق ذلك، فسيعني أن 56 عاماً من الأهوال كانت ببساطة هدراً مجانياً لحياة شعوب وبلاد وطاقات وعمران وأموال. 56 عاماً من خطأ لا يمكن تعويضه. 56 عاماً كجريمة متواصلة بحق لبنان.

لولا ذاك الخطأ الذي تناسلت منه نكبات لا حصر لها، لما كان هناك احتلال لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ولما كان هناك عشرات آلاف الغارات منذ الستينات إلى اليوم، ولما كانت هناك مئات المجازر، ولا الاجتياح الأول ولا الثاني ولا شريط حدودياً محتلاً ولا جيش سعد حداد وأنطوان لحد ولا عشرات الآلاف من الشهداء ومئات آلاف الجرحى والمعطوبين والأيتام والأرامل، ولا "عناقيد غضب" أو "تصفية حساب" أو حرب تموز.. ولما كان هناك ميليشيات تتقاتل وتقتل وتعيث الخراب وتهدم بلداً كان ينافس اليونان ويتشبه بسويسرا وبات يزاحم أفغانستان أو أي بلد منكوب آخر.

بل لولا ذاك الخطأ لربما ما عشنا حروباً أهلية وملبننة. وما كنا نتنقل من جحيم إلى آخر. وربما ما كان اللبنانيون ليصبحوا على ما هم عليه (للأسف، نخجل من تعيين وصفهم).

لو ظل لبنان مقيداً بوقائع إمكانياته وقدراته، وأهمية وظيفته ودوره آنذاك، كدولة مساندة لا دولة مواجهة، ملتزماً بموجبات تلك "الهدنة"، لوفّر ثروات بشرية لا تقدّر بثمن، وتنمية كبرى كانت بمتناول اليد، وتطوراً اجتماعياً وسياسياً معاكساً تماماً لحالنا اليوم، وازدهاراً اقتصادياً كان قد بدأ يوزع ثمراته في منتصف الستينات، ورقيّاً ثقافياً وتحديثاً للدولة فاق بأشواط كل الدول المحيطة. كانت وعود الستينات خيالية وقيد التحقق.. وأصبحت سراباً مستحيلاً بعد 56 عاماً من التمادي في الخطأ الأصلي الرهيب.

اللحظة المشؤومة كثقب أسود في التاريخ، ابتلعت أجيالاً وطاقات لا حصر لها. إذ يكفي أن نخمن فداحة الانقلابات الديموغرافية-الطائفية، الخسارات الفلكية في الأموال، خراب الأرياف وترييف المدن ومن ثم استبداد العشوائيات، دمار بيئي جذري، التقهقر العميق لمشروع الدولة، انفكاك المجتمع وتذرره.. والأهم، تحول وجهة لبنان الديموقراطي والمتنوع إلى دويلة البؤس والإدقاع.

هل كان بالإمكان تفادي ذاك الخطأ؟

أنظمة الرفض، التي رفعت اللاءات الثلاث: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف.. بعد هزيمة عام 1967، لم تعد قادرة على الحرب، وراحت تقنع شعوبها أنها لم تنهزم طالما أن "النظام لم يسقط"! وكان عليها أن تجد من يحارب نيابة عنها، بل وأن تثأر من الذين لم ينهزموا معها. وفي الوقت نفسه، كان السلاح الفلسطيني المستجد يبحث عن مسرح له، عن ساحة يتحرك فيها بلا قيد أو شرط، عن أرض ينطلق منها مستبيحاً أي حدود.

هكذا كان لبنان المرشح السيء الحظ والقدر، هو الفريسة السهلة (وبإرادة بعض أبنائه)، كي يُرمى في المواجهة وحده، متنكباً ثقل السلاح ومهمة تحرير فلسطين وتثوير الشعوب العربية. بل وهكذا كان لبنان العدو المثالي لإسرائيل كي تدمر النموذج التعددي والديموقراطي الوحيد الذي يهدد أيديولوجيتها وأطروحاتها.

56 عاماً من مؤامرة راحت تغذي نفسها وتتضخم تلقائياً في مسار جهنمي، لم يتوقف يوماً. وحين بدا أن مشاريع "الإعمار وإعادة البناء" وخطط رفيق الحريري وطموحاته، متسقة مع وجهة السلام، ومفترقة عن "الوصاية" السورية وأيديولوجيا السلاح، كان لا بد من قتل هذا المشروع ولو أدى إلى حرب أهلية جديدة.

يعود اليوم لبنان الرسمي إلى مطلب اتفاقية الهدنة وإلى ما كان عليه الحال قبل 1967، كمن تدغدغه أحلام الشباب الضائع وهو على سرير الموت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها