الثلاثاء 2023/03/28

آخر تحديث: 14:06 (بيروت)

نبيه برّي ونجيب ميقاتي: منامات الخلود

الثلاثاء 2023/03/28
نبيه برّي ونجيب ميقاتي: منامات الخلود
وقع ميقاتي بسهولة عجيبة في المقلب العبثي الذي رتبه برّي (مجلس النواب)
increase حجم الخط decrease

لست أدري ما هي المنامات التي تراود الرئيس نبيه برّي، ولا أحلام اليقظة التي تأتيه في ساعات الاختلاء بالنفس. لست أدري أيضاً أي مشاعر تنتابه لحظة الاستيقاظ ولحظة وضع الرأس على المخدة للنوم.

لكن الظاهر والمعلوم والمحسوس والمصوَّر هو هذا الاحتفاء بالذات، والتلذذ اليومي بالجلوس على العرش، وقضاء يومه هكذا في المُعاركة العنيدة لمجريات السياسة وترتيب الأفخاخ والأحابيل، وتدبير شؤون الرعية في تلك القرية أو ذاك الحيّ، في هذه الوزارة أو ذاك المشروع.. من غير إغفال "واجبات" منصبه ووظيفته الجليلة شبه الأبدية ما بين مقره في عين التينة ومكتبه في ساحة النجمة.

شحيحة جداً معرفتنا بأحواله المنزلية والعائلية، وطقوسه الشخصية ونوازعه الذاتية، ملذاته، ولهوه وتسلياته، وعاداته، أسراره الخاصة، هفواته ومزاجه. شخصية عامة منذ أكثر من أربعين عاماً، ومع ذلك لا معرفة حقيقية به. إنه صورة أكثر من كونه "شخصاً". إنه أداء علني لدور (زعامة، رئاسة) بلا أي سيرة ذاتية. أي أفلام مثلاً يشاهد؟ أي لون مفضل لديه؟ متى صادفناه في مطعم أو قاعة مسرح؟ نعرف فقط أنه يحب الشِعر، ويكتبه بين حين وآخر بلا تميّز. لكن هذا بالضبط ما يزيده غموضاً. فالشعر هو فن الالتباس والإضمار. إنه كائن بالغ الشهرة وحاضر يومياً إلى حد شديد الوطأة، ومع ذلك هو كائن سري تقريباً. كائن لا مجال معه لأي حميمية.

هذا ما أفسح بالمجال دوماً للخيال الجامح في تأليف حكايات وشائعات عنه، يغلب عليها الشطط، امتداحاً وذماً. النسج على عنف انفعالاته المباغتة، وقسوته اللفظية أحياناً، ومكائده السياسية "الباهرة"، تؤلف عنه صورة غير مريحة، ومزعجة. حكايات الثروة والغموض الشديد التي يحيط بها وبمصادرها وحجمها، مصدر خصب لتصورات كثيرة السلبية والشبهة والأقاويل.

في الآونة الأخيرة، بدا أنه يجاهد وينجح نسبياً في مكابدة الشيخوخة، رغم ارتجافة اليدين وتعب العينين. لن نقول "الخوف" إنما هذا الشعور النادر بالتهديد الذي يساوره ويظهر في إيماءات وحركات جسمه ونبرة صوته. إنه متيقن من  الخصومة الخاصة تجاهه، المتناسلة والمتولّدة من "معارك" أسوار ساحة النجمة أبان انتفاضة 17 تشرين وما تلاها. لم يبق له شيء من طمأنينة زمن ما قبل 2019. إنه متيقن أكثر من تحوله إلى "أبٍ" تضاءلت بطريركيته. بل بدا كما أقرانه من الزعماء خالي الوفاض تقريباً، بعد أن انتهى كل شيء وحل الخراب. لم يبق شيء لـ"يبيعه" للمستقبل، بل ومحرج من ماضٍ ما عاد ذمه سراً.

ولأننا نعرف أن الخجل ليس من صفاته البارزة، ولا الندم، فهو –كما أقرانه من الزعماء- لا يفعل شيئاً منذ أربع سنوات سوى المقاومة بشراسة إضافية، لا عواقب الزمن والوقت فحسب، بل "إصلاح" أو "تغيير" ولو بند واحد من قاموس السلطة. دفاع مستميت عن نظام ميت. خصومة لئيمة للمستقبل كله.

ولذا، فالغالب عليه في الفصول السياسية الأخيرة، ذاك السلوك العدواني وذاك الميل للثأر ولمغالبة العداء "الشعبي" الذي يتنامى. حادثة وفيديو "الساعة"، دليل إضافي على نازعه المتفاقم للمناكفة أو الكيدية، بلا تحفظ، كلذة مستجدة يرغب في أن تكون علنية ومكشوفة.

في المقابل لدينا نجيب ميقاتي، الاختصاصي برئاسة "الوقت الضائع"، الشخصية الفاترة، الذي باستطاعته تأليف كتاب كامل خال من أي معنى. و"الميقاتية" هي الكوما. أي دوام الغيبوبة، فلا حياة فعلية ولا موت محقق. يذكّرنا بطائفة "المرجئة"، تأجيل كل شيء. يمثّل ولا يمثّل في آن واحد. لبق ودمث كتنويم مغناطيسي.

مهجوس بحرصه اليومي على أخذ "بركة" عين التينة وسيدها. ولذا، معه أضحت رئاسة الحكومة مقراً للضعف. كتبنا عنه مرة " نجح أن يكون في السلطة وفق مبدأ لا أتحمل المسؤولية.. هذه نعمة لا يحلم بها أي سياسي".

ما استجد في المرحلة الراهنة، هو وقوعه بسهولة عجيبة في المقلب العبثي الذي رتبه برّي، كمهزلة ألحقت مهانة إضافية باللبنانيين ودولتهم. لم يكن ميقاتي "زئبقياً" كعادته. مشهده في جلسة "الساعة" كان مثيراً للشفقة. كانت روحه تصرخ: أنجدوني.

بوقوع ميقاتي وغياب رئيس الجمهورية.. يبقى برّي وحده، تراوده منامات الخلود.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها