يضع بائعو الخضار العلم أعلى عرباتهم، كما يلصقه أصحاب المحلات التجارية عند مداخلها. ليس عين الحلوة استثناء، فكل المخيمات سواء. في مخيم نهر البارد الذي بالكاد صحا أهله من نكبتهم الثانية، كان الشباب في حي سعسع يزينون حيهم بمئات الأعلام الفلسطينية، ويرفعونها فوق البيوت. سعسع التي تُرى من جنوب لبنان بالعين المجردة، على الأرجح أن شبابها "السعاسعة" قبل هذا اليوم لم ينتبهوا إلى أن نشيد "فدائي"، الذي يرددون بداياته بالمناسبات الوطنية، يتضمن أبياتاً حول العلم "بحق القسم/ تحت ظل العلم/ بأرضي وشعبي/ ونار الألم/ سأحيا فدائي/ وأمضي فدائي/ وأقضي فدائي/ إلى أن أعود". واليوم ينشدونه بفخر ودهشة، وكأن أحد قيادات "فتح" سعيد المزين يعرضه لأول مرة بعد أن نظمه بطلب من ياسر عرفات منتصف الستينات.
ارفع علمك
العلم الفلسطيني ينتصر، كما في تظاهرات الفلسطينيين ما بين الرشيدية ونهر البارد والجليل وصولاً إلى بعض المدن الأوروبية، كذلك في مواقع السوشال ميديا. حملة "ارفع علمك" انطلقت لتشمل كل المواقع، ولاقت رواجاً واسعاً بين الفلسطينيين، والتزاماً قوياً. عادوا يرددون مع رفع العلم "يا هَناك/ في علاك/ قاهراً عداك"، بروح شاعرهم إبراهيم طوقان. العلم لم يعد غريباً، أو حالة استعراضية، أو حتى غطاء كاشفاً لغابة رايات فصائلية التي تخنق الحالة الوطنية في كل مناسبة عامة. استعاد الفلسطينيون علمهم، ولو مؤقتاً، لكن لا بأس أن يجرّبوا تلك النشوة، فعلى الأقل سيجدونها جديرة بالاستعادة كل فترة.
تجاوز الانقسامات
سيادة العلم هيأت أيضاً لتجاوز الانقسامات داخل التظاهرات، إضافة إلى أسباب أخرى. فالتظاهرات أعادت الدماء إلى عروق هيئة العمل الفلسطيني المشترك، فكانت الكلمات من كل الأطياف، والأهم أن المتظاهرين لم يميزوا بهتافاتهم بين محمد ضيف القسامي "حط السيف قبال السيف/ نحنا رجال محمد ضيف"، وبين كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس، وقائد "كتائب شهداء الأقصى" زكريا الزبيدي. ضيف والزبيدي كانا في التظاهرة وجهاً واحداً رسمت الشظايا معالمه، فضيف أُصيب خلال محاولة اغتيال، والزبيدي أثناء إعداده عبوة ناسفة.
القدس التي طالما وحّدت الفلسطينيين في مخيمات لبنان، وهي أبرز رموزهم على الإطلاق. صورها عند مداخل مخيماتهم وتجمعاتهم، في الزواريب، داخل منازلهم، خلفية لصور شهدائهم، أغانيهم، مناسباتهم، شعاراً لأحد أهم قادتهم التاريخيين "ع القدس رايحين/ شهداء بالملايين".
تكاد تختصر ثوراتهم وتاريخهم: ثورة موسم النبي موسى(1920)، حين وقف الحاج أمين الحسيني رافعاً صورة الملك فيصل الأول هاتفاً: "هذا هو ملككم"، فأتبع ذلك نفيه والحكم عليه غيابياً ثم عودته مفتياً. ثم ثورة البراق (1929)، والثورة الكبرى (1936) واعتكاف الحسيني لثلاثة أشهر بالمسجد الأقصى محاصراً وبعدها فراره إلى زوق مكايل في لبنان.
ثم المعارك الكبرى في القدس عام (1948)، ومن بينها تفجير شوارع يهودية والوكالة اليهودية وغير ذلك. وعند تخومها كان استشهاد أعظم قادتهم عبد القادر الحسيني. القدس التي توحدهم اليوم في التظاهرات هي التي كادوا يختصرون النكسة باحتلال الجزء الشرقي منها. وهي التي بسببها رفض عرفات كامب ديفيد 2، وفضّل الانتفاضة والحصار على تجاوز بعض ما اعتبره خطوطاً حمراء في التفاوض حول المدينة. لذلك وقف الفلسطينيون اليوم في مخيماتهم موحدين مستظلين بعلم واحد هرباً من شتات رايات متنافرة، مستمعين إلى كلمات تعد بالعودة، والكثير من الاستعداد لتكرار تظاهرات لا يملونها منذ 74 عاماً، وإن قل حصادها حتى اليوم.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها