الأربعاء 2022/01/26

آخر تحديث: 00:03 (بيروت)

بيروت وتنحّي الحريري.. درس سياسي للجميع

الأربعاء 2022/01/26
بيروت وتنحّي الحريري.. درس سياسي للجميع
سعد الحريري، درس سياسي للجميع. له، لخصومه ولحلفائه على حدّ سواء (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
يوم 14 شباط 2005، بكت بيروت فعلاً. وفي 16 شباط عبّرت العاصمة عن حزنها خلال مسيرة دفن الرئيس رفيق الحريري. حتى أنه تمّ العزف والغناء لبيروت الباكية. كرهته أو أحببته، خاصمته أو ناصرته، كان رفيق الحريري رمزاً اختزل مشروعاً وحقبة بطوائف وسياسة ورؤية. يوم 24 كانون الثاني 2021، قيل إن بيروت حزينة وتيتّمت. فراق الرئيس سعد الحريري للحياة السياسية والانتخابات، قد يكون زلزالاً فعلياً يمكن ترجمته في أكثر من معنى وتحليل. لكن بيروت لم تبكه. قد تكون حزينة لكنها لم تذرف الدمع. ولم تعبّر عن المبايعة، ولا الأسى أو الوحدة واليتم. الاحتجاج على خروج سعد الحريري من اللعبة السياسية كان ضيئلاً جداً. كأنه لا يُذكر. احتجاج جمهور كرة قدم على خسارة فريقه للقب أو مباراة يمكن أن يكون أكثر حماسةً وحِدّة.

يتم العاصمة وتهجيرها
شوارع بيروت، من رأسها حتى طريقها الجديدة، تغطّ منذ سنوات في حزن ويتم. منذ 7 أيار 2008، كحّل التهجير حياة أهل العاصمة. مع سعد الحريري أو من دونه، أهل بيروت تيّتموا ثم تهجّروا. وبعد الاجتياح جاءت تسوية وخيط أمل. ثم انقضاض جديد على سعد الحريري والإطاحة به بوزير ملك. فحالة يتم جديدة كرّسها الحريري بنفسه يوم غادر مطرقاً إلى الشرق والغرب بعيداً عن العاصمة لأكثر من ثلاث سنوات. ثمّ تسوية أخرى. خيط أمل متجدّد، فانتكاسة على وقع خلاف مع العهد، و17 تشرين التي حلّت نكبة بسقوط الحريري في الشارع. كل هذا الصعود والنزول، كان للحريري وتياره، أما أهل بيروت فأيتام. تيتّموا عام 2005، وتهجّروا عام 2008. أما خروج سعد الحريري اليوم من الحياة السياسية فتسليم باليتم والتهجير اللذين وقعا.

اليتم اليومي
منذ أن بدأت الأزمة الاقتصادية أواخر عام 2019، وأهل بيروت يشعرون باليتم والحزن والفقر أيضاً. لم يبادر تاجر أو صاحب شركة أو قهوة أو فرن إلى إقفال محلّه اليوم والجلوس في المنزل للحزن على تنحّي الحريري. مشهد الحزن الذي قيل إنه خيّم على العاصمة اليوم بعد خروج سعد الحريري من الحياة السياسية، مطابق لمشهد اليأس والضياع قبل يومين، وقبل أسبوع وشهر وسنة. أهل بيروت، وسائر المناطق أيضاً، هائمون في البؤس. قد يأتي اعتزال الحريري ليزيد قهر بعض الناس. إلا أنّ هذا القهر الإضافي لم نلمسه فعلياً. فاليتم اليومي تحصيل حاصل. أيتام ينتظرون لأيام أمام محطة محروقات. أيتام يُذلّون على أبواب المصارف. أيتام لا يبحثون عن الدواء المقطوع في الصيدليات. أيتام لا ضمان اجتماعي لهم ولا تغطية صحية. ولا مؤسسات حريرية أساساً تتكفّل بالمطلوب. والحزن، هو على كل هذا اليتم اليومي أولاً. وأحوال اللبنانيين ثانياً. وغياب الحلول ثالثاً، وانعدام الأمل رابعاً. 

سيناء وغيرها
خيّل للبعض أنّ اعتكاف الحريري قد يكون خطوة سياسية على طريقة خطاب التنحي لجمال عبد الناصر. فتنزل من بعدها الجموع الزرقاء لتهتف "بالروح بالدم" وتبايع القائد المنتكس. الرجل خسر ولم يُنكَسْ فقط. خسر ماله، وإرثه السياسي. خسر مؤسساته وموظفيه وجمهوره. خسر حلفاءه ومشروعه وشعاراته. خسر معاركه وتسوياته. سعد الحريري، بغضون 17 عاماً من العمل السياسي، خسر كل شيء وليس سيناء وحدها. لم يبنِ مشروعاً وحصّنه بتيار ورؤية. اعتاش على ظهره الحلفاء والأعوان والمستشارين، من دون أن يقدّموا شيئاً في المقابل. ربما قدّموا القليل فقط لكن لقاء أجْر أو مصلحة، أو مقعد وزاري أو صوت انتخابي.

نتيجة طبيعية
أفول عصر الحريرية السياسية في بيروت ومختلف المناطق اللبنانية، يأتي ترجمة منطقية لمسار المحطات السياسية والتنظيمية خلال العقد الأخير. هو مسار الانتكاسات المتتالية، سياسياً وانتخابياً. ثم تنظيمياً ومؤسساتياً. بدءاً من الخروج من الحكومة، ومغادرة البلد وعدم خوض معركة المعارضة، مروراً بمنطق التسويات وحركة التسليف السياسي الدائم حتى للخصوم المفترضين، وصولاً إلى إقفال المؤسسات الإعلامية توالياً، والعجز عن دفع المستحقات المالية. فانفرط العقد السياسي والتنظيمي. والحريري صادق إلى أبعد الحدود في تحديد النفوذ الإيراني والتخبّط الدولي والانقسام الوطني والاستعار الطائفي كأسباب فعلية لتعليق عمله السياسي.  الرجل، رجل تسويات لا شخصية مواجهة. وتلطيف هذا الواقع يحصل من باب تعديل الوصف إلى رجل الاعتدال والانفتاح والحوار.

سعد الحريري، درس سياسي للجميع. لخصومه إن اضطروا إلى عقد صفقات وتسويات أو حوار. لحلفائه إن احتاجوا جبهة أو دعامة أو صوتاً أو تنوّعاً وتلويناً. بيروت، بناسها وأهلها، مدينة اعتدال وانفتاح وحوار.
في زمن انتفاضة 17 تشرين، كان السؤال الدائر في ساحات المدينة "أين أهل بيروت"؟ ثوار الشمال والبقاع والإقليم والجنوب جاؤوا إلى العاصمة، واعتصموا وتظاهروا وواجهوا الهراوات وقنابل الغاز والعسكر، ولم يجدوا أهل بيروت. ربما بيروت، بناسها وأهلها، لا تريد المواجهات ولا التحدّي. ربما هي بحاجة لمشروع بأوصاف الاستقرار والحوار فقط، ولو كانا زائفين ومركّبين. صفّي ذلك المشروع عام 2005، وتُختم آخر مظاهره في 2022. فماذا تريد العاصمة، وماذا يريد أهلها؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها