الخميس 2021/09/23

آخر تحديث: 13:23 (بيروت)

طارق البيطار.. الفدائي الأخير

الخميس 2021/09/23
طارق البيطار.. الفدائي الأخير
كان من غرائب 2005 طلب العدالة. والأغرب كان طلب الحقيقة (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease

كان من المتوقع في شباط 2005، وفق تجارب كثيرة منذ السبعينات وإلى ما بعد اغتيال الرئيس رينيه معوّض 1989، أن تأتي الجرافات وتزيل الركام والسيارات المتفحمة، تليها شاحنات الإطفاء لشطف المكان، بعد أن تكون فرق الإسعاف قد أخلت الضحايا. وكان من المتوقع أن يصحب كل هذا مزيج من الذهول والحزن والدموع.. والكثير من بيانات الشجب والاستنكار. والأهم، كان من المتوقع ترتيب جنازة رسمية وقورة للمقتول رفيق الحريري، تطوي الحدث وتدرجه بين منزلتي "القضاء والقدر" و"العدو الصهيوني". وعلى هذا المنوال أيضاً، يكون التحقيق الجنائي ملفاً فارغاً ومنسياً.

لم يحدث تماماً ذاك المتوقع. فكان من غرائب 2005 طلب العدالة. والأغرب كان طلب الحقيقة. فهذان مطلبان بديا حينها طارئين على حياتنا وسياساتنا ولغتنا. كأنهما مستوردان للتو من بلدان نحسدها ولا نقوى أن نكون مثلها.

ربما لهذا السبب كان الأمر مغرياً لنا إذ رحنا مئات ألوف السكان نردد هذين المطلبين وننشئ عليهما عصياناً مدنياً و"سياسة" جديدة. وكنا حينها نلقى تشجيعاً من الدول الكبرى وصحافتها، ونجد سنداً من أمم متحدة وهيئات دولية وحتى رأياً عاماً عربياً. وشعرنا أننا بذلك نلاقي عالماً متفائلاً آنذاك بمحاكمات مجرمي الحرب ومقترفي الإبادات والجرائم ضد الإنسانية. وكنا بدورنا نبرهن أيضاً أننا ننحاز إلى حضارة تحارب الإرهاب وتنبذ العنف والقتل السياسيين.

بالطبع كانت "مكافأتنا" ثمانية أعوام من الاغتيالات المتواصلة، وحُشِرنا في كابوس الحرب الأهلية والمزيد من القوة الغاشمة والمنظمة تحت سماء ملبدة بالخوف. وكان هذا كفيلاً بتمزيق ملف التحقيق، وجعل الحقيقة عديمة المعنى، فيما العدالة تحولت إلى مهزلة "دولية" باسم حفظ الاستقرار والأمن.

كان واضحاً من المنتصر ومن المهزوم. وحدث التوقيع على الاستسلام في "تسوية" العام 2016. هكذا ولد النظام الجديد الناشئ من رحم "معركة" أيار 2008.

لبنان الجديد هذا كان على الضد من ذاك اللبنان الذي تمنيناه في ربيع 2005. ضدية تامة ومتعمّدة، أيديولوجياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً. ضدية صِدامية وعدائية، سرعان ما ترجمت نفسها في ذاك الانخراط الواسع في الحرب السورية إلى جانب أكثر الأنظمة إجراماً في العالم. كان هذا انتقالاً جذرياً للبنان من هوية إلى أخرى.

لذا، وعلى عكس ما يظنه الكثيرون، أقل الأثمان لا أبهظها كان هذا الانهيار للحدود وللدولة وللاقتصاد وللقضاء وللاجتماع اللبناني. وفاقمه أن الأحزاب والساسة المستسلمين والمهزومين (المعارضين السابقين) كانوا قد أسلموا أنفسهم وانقادوا بدورهم إلى تحت "عباءة" النظام الجديد، الذي أجاد إغراقهم بالفساد إلى حد إفقادهم أي رصيد أخلاقي أو سياسي. ارتضوا تماماً الانضمام إلى "العصابة".

وكان هناك أيضاً ثمن إضافي باهظ علينا أن ندفعه، واستحقت فاتورته الجهنمية في 4 آب 2020.

وتماماً، كما كانوا يتوقعون في شباط 2005، أي أن يقع الحدث المهول بين منزلتي "القضاء والقدر" و"العدو الصهيوني"، فرضوا علينا بإصرار فاجر أن لا نعيد الكرة، أن لا نطلب الحقيقة ولا العدالة.

الدرس القديم الذي تعلمناه في العقد الماضي، والدروس الجديدة التي تلقيناها بين تشرين الأول 2019 وشباط 2020، هي التي جعلتنا نترك أهالي ضحايا انفجار المرفأ لوحدهم. هي التي تجعلنا اليوم نترك القاضي طارق البيطار وحيداً مفرداً.. ننظر إليه كآخر فدائي في جمهوريتنا الآفلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها