الخميس 2021/09/02

آخر تحديث: 15:12 (بيروت)

الطوائف التي تلبطني..

الخميس 2021/09/02
الطوائف التي تلبطني..
طوال 30 سنة، أرفض الاغتراب، بعناد خال من أي إيمان (Getty)
increase حجم الخط decrease

جاءت الراهبات إلى المخفر، حيث ماري (الصبية القاصر) المسيحية التي تزوجت "خطيفة" الشاب محمد، الشيعي، حاملات ما يشبه ألبوم الصور: "اختاري يا ماري أي شاب من شبابنا واتركي هذا المتوالي".

هكذا، كنت قبل أن أولد مرفوضاً من أهل ملّة أمي التي ستنكرها عائلتها إلى الأبد.

هكذا أيضاً، ستبقى عائلة أبي لزمن طويل مستنكرة زواجه من تلك الأرثوذكسية نصف الأرمنية، وأكون بنظرهم "ابن المسيحية".

مع أول صدام مسلح في لبنان عام 1973، تأتي شلة طائفية موتورة وتهدد أبي بالقتل. سنضطر للهروب من الأشرفية. ذاك هو التهجير الطائفي الأول. ثم بعد سنتين، تندلع الحرب وتقتل الميليشيات المسيحية أبي. أشهر قليلة ويحدث الهجوم على النبعة. أمي وأخي وأختي وأنا نهرب إلى منطقة الأرمن، أنسباء أمي. إنه التهجير الطائفي الثاني.

برعاية الحزب "العلماني" الذي كان أبي منتسباً إليه، سنقيم في "بيروت الغربية". بعد اجتياح 1982، ستطاردني ميليشيا "القوات اللبنانية"، وأهرب إلى البقاع. إنه التهجير الطائفي الثالث.

بعد العام 1984، ستصبح أمي شديدة الخوف من التجول ببيروت الغربية. كل مسيحي مهدد بالتهجير أو الخطف أو القتل. وبسلاحي الحزبي "العلماني" سأساهم بدوري في حروب التهجير الطائفي، في شوارع بيروت والضاحية وشرق صيدا وطرابلس والجبل والمتن. وستصعد قوة جديدة شديدة التعصب المذهبي والبأس، طائفية شيعية، وتبدأ بتصفية أولئك العلمانيين. سأترك السلاح والحزب وأهرب إلى أفريقيا. إنه التهجير الطائفي الرابع.

أعود إلى بيروت وأدخل الجامعة عام 1987. في كافيتيريا الكلّية ستحيط بي شلة من أشاوس "حزب الله" وأبلع الإهانة المتعمدة. ولم أصمد طويلاً. أترك الجامعة كما أبتعد نهائياً عن ذاك الحزب "العلماني" الذي كان يصنف الطوائف وطنية وعميلة. والأسوأ اكتشافي أني كنت في حزب فاشي حتى العظم. إنه التهجير الخامس روحاً وجسداً.

تنتهي الحرب ويبدأ الإعمار. لا أجد مطرحاً لي بين اتفاق الطوائف ولا حتى بين أولئك العلمانيين المتوزعين بين عصبة فاشية وعصبة ستالينية.. ناهيكم عن "البعث" الذي يجسده الجيش السوري في ربوع لبنان. خطة "إخلاء المهجّرين" ترميني في الشارع. دولة الطوائف تهجرني للمرة السادسة.

بين 1990 و1994 تنقلت وزوجتي وابني بين ثلاث شقق. إما بسبب فحش الإيجار في مناطق سكنية لا صبغة طائفية فيها (رأس بيروت مثلاً) وإما بسبب التنافر مع السكان في مناطق أهلية صافية طائفياً، تجعلني منبوذاً ومطروداً. تهجير دؤوب بلا عنف.

اشتريت شقة في أقصى الضاحية الجنوبية. ستة أشهر كانت كافية لأدرك استحالة "الاندماج" مع كل الاضطهاد الصامت الذي كان يحيط بي. سأبيعها ويكون تهجيري الطائفي مرة أخرى.

أهرب إلى الكويت والإمارات لثلاث سنوات. أعود مفعماً بلبنان أواخر التسعينات، منحازاً إلى تلك الفكرة الساذجة عن الاستقلال والحرية والتحرير والديموقراطية.. إلى لحظة آذار 2005. لكن الأقلية-النخبة التي جمعت الطوائف أخيراً، ستدفع الثمن الباهظ بعد "الحلف الرباعي".

أيار 2008، أتت الميليشيات الطائفية وأحرقت مكتبي. ثم ذهبوا إلى منزلي.. لأتهجر من "الغربية" إلى "الشرقية" هذه المرة.

طوال 30 سنة، أرفض الاغتراب، بعناد خال من أي إيمان. عناد لا نضال فيه ولا أحلام. بل بلا أي دافع وطني. 30 سنة والطوائف كانت ترفسني كيتيم لا أحد يرغب بعبئه، كلقيط لا تعترف به راهبات أمي ولا شيوخ أبي.

بعد 2019 وخريفها المشتعل.. انتصر شعار "شيعة شيعة" وانتصر شعار "أوعى خيّك" وانتصر شعار "الفيديرالية" وانتصر شعار "حقوق المسيحيين" وانتصر شعار "دم السنّة يغلي".. وانهزمت وحدي. الطوائف كلها الآن تلبطني.

حان وقت الرحيل؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها