الخميس 2021/08/19

آخر تحديث: 12:11 (بيروت)

عجز الثورة وتغييب العدالة الطائفية

الخميس 2021/08/19
عجز الثورة وتغييب العدالة الطائفية
لماذا يرفض ناشطو المجتمع المدني وثواره في لبنان الخطاب الطائفي؟ (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
يرفض ناشطو المجتمع المدني وثواره في لبنان، بيسارهم ويمينهم وعلى اختلاف مشاربهم، الخطاب الطائفي وأي فعل سياسي أو مطلبي يرتكز على انتماء طائفي. فهم يرون في الطائفية آفة المجتمع اللبناني الأولى التي تصدر عنها كل الموبقات الأخرى.

الظلم الطائفي
لا خلاف على أن الطائفية هي أم المشاكل في لبنان. لكن هذا، بخلاف ما يعتقده ناشطو المجتمع المدني وثواره، لا يستدعي رفض كل نشاط سياسي يرتكز على الانتماء الطائفي. لا بل يكون الفعل السياسي المرتكز على هذا الانتماء ضرورة سياسية واخلاقية أحياناً، وخصوصا عندما يطغى نوع من انعدام العدالة الطائفية، على ما هي الحال اليوم. فالطائفة الشيعية تتمتع اليوم بامتيازات عسكرية تفوق بأشواط مثيلاتها من الطوائف مجتمعةً، وهكذا كانت في الماضي حال الامتيازات السياسية الواسعة للطائفة المارونية.

فمع فقدان أو اهتزاز العدالة بين الجماعات، مهما كانت طبيعتها (دينية، طائفية، إثنية، عرقية، أم جندرية)، يصبح من الطبيعي والمبرر أن تخرج المطالبات بتحقيق العدالة، وأن تصدر أساساً عن الجماعات المغبونة. ومن المنطقي والسوي، بعبارة أخرى، أن يطالب أفراد جماعة تتعرض لظلم ما، برفع ذلك الظلم عنهم، وأن تصدر مطالبتهم تلك من موقعهم كمنتمين إلى تلك الجماعة. وحين تكون تلك الجماعة طائفة، فإن انتماءها الطائفي يشكل مرتكزاً مشروعاً لفعلها السياسي والأخلاقي. ورفض هذا المرتكز الطائفي أو استهجانه أمر لا يتناسب مع الاعتراف بطبيعة الظلم نفسه.

الظلم القومي والجندري
لا يختلف حال الظلم الطائفي عن حالات الظلم الجندري أو العرقي أو الإثني. فالنساء، مثلا، كونهن الطرف المظلوم في المسألة الجندرية، هن في الموقع الأول للمطالبة بالعدالة الجندرية. كذلك هم السود في قضية العدالة العرقية. وهذا لا يمنع على الاطلاق أن ينضم رجال إلى المطالبة بحقوق النساء أو أن ينضم غير السود للمطالبة بحقوق السود. لكن ذلك لا يقلل من أهمية مطالبة النساء كنساء بالعدالة الجندرية، أو مطالبة السود، من موقعهم كسود، بالعدالة العرقية. لا بل على العكس، فانتماءات هؤلاء إلى الجماعة المظلومة يشكل مرتكزاً أساسياً لمطالبتهم برفع الظلم. أضف إلى ذلك أن تلك الانتماءات مهمة لفهم مواقف الرفضين للظلم وتقييمها. فرفض السود للتمييز العرقي ينطلق من كونهم الفئة المظلومة ويُفهم موقفهم على هذا الأساس. أما موقف البيض الرافض لذلك التمييز نفسه، فينطلق من رفضهم لامتيازاتهم التي يرونها غير مبررة أخلاقيا، ويُفهم موقفهم على هذا الأساس.

وفي نضالهم لتحقيق العدالة العرقية، لا ينبذ السود المناهضون للتمييز انتماءهم العرقي، بل ينطلقون منه، كذلك لا ينكر البيض المناهضون للتمييز ضد السود انتماءهم العرقي، لا بل يُعطي ذلك الانتماء معنى وقيمة مختلفين لفعلهم السياسي والاخلاقي.

وإذا كان إبراز الانتماء الجندري أو العرقي مرحّباً به في حال المطالبة بالعدالة الجندرية أو العرقية، فلماذا لا يكون الأمر كذلك في مسألة العدالة الطائفية؟ أي لماذا لا يستساغ أن يقوم أفراد أو مجموعات ينتمون إلى طائفة مظلومة بالمطالبة بتحقيق العدالة الطائفية من موقعهم كمنتمين إلى تلك الطائفة؟ أو أن يقوم أفراد آخرون برفض هيمنة طوائفهم على غيرها من موقعهم كأفراد ينتمون إلى الطائفة المهيمِنة؟ أي لماذا لا يعامَل الانتماء الطائفي كأحد أبعاد الفعل التغييري الرافض للظلم الطائفي؟ ولماذا لا يسري ما هو مقبول في الحالة الجندرية والعرقية ومثيلاتها (كالإثنية والقومية - الأكراد أو الفلسطينيون مثلاً) على الحالة الطائفية أيضاً؟ ولماذا يصر كثيرون على نبذ الانتماء الطائفي كمرتكز للعمل السياسي والاخلاقي؟

سبيل رفع المظالم
قد يجيب البعض أن إبراز الانتماء الطائفي من شانه أن يعمّق الأزمة ويزيد من انعدام العدالة الطائفية. لكن إذا صح هذا المنطق، فلماذا لا يسري أيضا على مسألة العدالة الجندرية أو العرقية، ويُنبذ بناءً عليه إبراز الانتماء الجندري أو العرقي كأحد مرتكزات مناهضة الظلم في هاتين الحالتين؟

ربما يعتقد البعض أن القضاء على الغبن بين الجماعات، يستلزم القضاء على شعور أفراد تلك الجماعات بالتضامن مع جماعاتهم، أي القضاء على الشعور بالانتماء إلى الجماعات المعنية. لكن هذا فهم مغلوط. فالقضاء على الغبن بين الجماعات، هو المدخل الضروري لإضعاف الشعور بالتضامن داخل الجماعات، وليس العكس. فهيمنة جماعة على أخرى من شأنه أن تقوّي الشعور بالانتماء والتضامن مع الجماعة، سواء من قبل أفراد الطرف المهيمَن عليهم، أو من قبل أفراد الطرف المهيمِن. وتحقيق حد مقبول من التوازن والعدالة بين الجماعات، هو المَعبر الوحيد لإضعاف حدة شعور أفراد تلك الجماعات بانتماءاتهم، طائفيةً كانت أم اثنية، عرقيةً أم جندرية.

وقد يرى البعض أن مسألة العدالة الطائفية تفتح دائما شهية الطوائف لتقديم سرديات متناحرة عن مظلوميتها، مما يدخلها في صراع مظلوميات عقيم في أفضل الأحوال ومدمر في أسوئها. لكن غياب الإجماع على سردية واحدة للمظلومية لا يبرر وضع مسألة العدالة بين الجماعات جانباً. فغياب الاتفاق على سردية مشتركة للمظلومية بين يهود وفلسطينيي دولة إسرائيل مثلاً، لا يبرر أبداً أن يُطلب من الفلسطينيين وضع مطالبهم بالعدالة جانباً. والأمر نفسه ينطبق على قضايا العدالة الطائفية، إذ لا مبرر للتعاطي مع هذه الأخيرة بشكل مختلف عن قضايا العدالة الإثنية أو القومية وغيرها.

الجوهر والمظهر
وقد يرى البعض أن الطائفية، بما فيها اللاعدالة الطائفية، ما هي إلا تمظهر وتمويه للمسألة الطبقية. وبالتالي فإن إبراز الانتماء الطائفي لا يخدم إلا إضعاف الوعي الطبقي. لن ندخل هنا في مقولة "التمظهر" هذه، أو في مسألة الظاهر والجوهر، وصوابها.

لكن ألا يُفترض أن تنطبق مقولة التمظهر أيضا على المسألة الجندرية أو العرقية، فتكون الأخيرة أيضا تمظهراً للمسألة الطبقية؟ وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يجب أيضاً، وحسب المنطق ذاته، نبذ الانتماء الجندري والعرقي كأحد مرتكزات مناهضة التمييز في هذين الحيزين؟ لكن حتى عتاة مقولات التمظهر من ناشطي ومنظري الثورة والمجتمع المدني لا يدينون الارتكاز إلى الانتماءات الجندرية أو العرقية في مناهضة الظلم في هاتين الحالتين.

قوة السلاح الشيعي
وهناك أيضاً من ينفي وجود مسألة عدالة طائفية في لبنان، ويرى أنها مجرد أزمة طائفية لا يمكن أن تُعالج إلا بنبذ الانتماء الطائفي. وحسب منطق هؤلاء لا تتمتع الطائفة الشيعية اليوم بامتياز عسكري على غيرها.

فسلاح حزب الله، برأيهم، مهيمن على أفراد هذه الطائفة، كما هو مهيمن على سواهم. بمعنى آخر ينكر هؤلاء أن تكون "البيئة الحاضنة" والفخورة بذلك السلاح هي بيئة شيعية أساساً. وهم أيضاً لا يعتبرون أن سلوك الناخب الشيعي يعبر فعلاً عن مشاعره وخياراته الحقيقية. ولا يعترفون أن هناك شبه تقديس راسخ بقوة داخل الطائفة الشيعية لأمين عام حزب الله، وأن نصر الله ليس ستاليناً يخاف الشيعة بغالبيتهم بطشه، بل قائد يجلّونه ويرون في قوته قوةً لهم.

الاعتراف بالمظالم
إن انكار الغبن والقهر الطائفي لا يلغيهما. ولا يلغيهما الوعي الوطني أو القومي الزائف. فأن ننكر أن السُنّة اليوم طائفة مهمشة في لبنان ومهشمة في سوريا، لا يعبر إلا عن انعدام حساسية اخلاقية لصالح أفكار بالية وإيديولوجيات متهالكة. طبعاً لا يعني الاعتراف بمظلومية السنة في هذين البلدين أنهم مظلومون في كل مكان وزمان. ولا يلغي أنهم قد ينقلبون إلى ظالمين في ظروف أخرى. لكن ذلك لا يقلل من الأهمية السياسية والأخلاقية للاعتراف بمظلوميتهم في الظرف الحالي.

ومن شأن إنكار أو تهميش مسألة العدالة الطائفية، أن يستعاض عن المطالبة بها بأشكال مشوهة وغير مؤهلة لإحداث التوازن الضروري في المجتمع. وهذا ربما ما حصل مع الطوائف الإسلامية قبل الحرب الأهلية في لبنان. إذ بدل أن تطالب بمكانة عادلة في الدولة والدستور وتدخل في نقاش حول شروط العدالة الطوائفية وكيفية تحقيقها، استعاضت عن ذلك بتبني خطاب قومي عربي أنتي - إمبريالي استحضر السلاح الفلسطيني واسبغ على خصمه المسيحي صفة العمالة والخيانة. وهذا أدخل البلاد في آتون حرب رهيبة لم نخرج بعد من تبعاتها.

تبقى الجماعات الأهلية والطائفية وهمومها الأكثر فعلا وفاعلية في المجتمع اللبناني. وتغييب تلك الجماعات عن ساحات "الثورة" يعني عجز الثورة عن أن تكون ثورةً. أما زجها في الساحات، والحال هذه، فيهدد بتحويلها إلى حرب أهلية. من هنا يأتي عجزنا المطلق كمجتمع عن إحداث أي تغيير. لكن هذا لا يبرر رفضنا الاعتراف بأهمية مسألة العدالة بين الجماعات الأهلية والطائفية، بل يجعل المطالبة السلمية بها أكثر إلحاحاً.

وأي موقف آخر من شأنه أن يطيل هذا العجز إلى آخر الدهر أو آخر الوطن.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها