الخميس 2021/06/17

آخر تحديث: 16:00 (بيروت)

بانتظار بنزين إيران

الخميس 2021/06/17
بانتظار بنزين إيران
تصطف السيارات منتظرة أسطول سفن نفط الجمهورية الإسلامية (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

خُيل إليّ أن هذه الطوابير من السيارات الممتدة لأكثر من كيلومتر، والمقفلة من دون سائقيها، أمام كل محطة مغلقة، هناك في الجنوب، أن أصحابها لا ينتظرون دورهم كأقرانهم في المناطق الأخرى. إنهم هكذا، ركنوا سياراتهم وذهبوا إلى بيوتهم صبراً لانتظار مختلف ومديد، من دون مهانة الجلوس التالف للأعصاب وراء المقود. يركنونها ويقعدون في منازلهم بكامل كرامتهم وراحتهم. وعلى الأرجح مطمئين تماماً أن حاجتهم ستلبى في الوقت المناسب، وبلا أسئلة كثيرة ولا حيرة وقلق.

إنه نوع من التسليم واليقين بأن بنزينهم سيصل إلى خزانات سياراتهم بلا عناء، ولو بعد زمن. ولذا، هم هكذا بأفضل حال، لا فوضى أمام المضخات ولا إشكالات ولا تذمر. فهم موعودون وعداً صادقاً.. لا يخذلهم ولا يأتيهم بخيبة.

في المناطق الأخرى، حيث سلطات الفساد وأحزاب العجز وطوائف المافيات، تُهدر كرامات الناس عند المحطات، تتبهدل السيدات ويُهان الرجال، تتفشى السوق السوداء، وعمليات الرشى، ويكثر التشبيح وتدب الفوضى. أما في أرض أشرف الناس، فحزبهم يصونهم ويحرس عزتهم.. ولو تطلب الأمر فقدان بنزين أو مازوت أو حليب أو دواء. فهذا نصبر عليه كي لا نفتح باباً لشماتة الأعداء.

ثم أن البنزين هذا يظل -مهما كانت حاجتنا إليه- مجرد ترف جاءت به الحضارة الاستهلاكية، ويجوز التضحية به إزاء متطلبات الصمود. بل، ورغم ذلك، فإن قائدنا هدد وتوعد، وكلمته لا تذهب هباء. البنزين الإيراني آتٍ، شاء من شاء وأبى من أبى. وبهذا الأمل الكبير، تصطف السيارات منتظرة أسطول سفن نفط الجمهورية الإسلامية.

وفي الأثناء، إذا تأخرت تلك السفن، لا يجوز التبرم والتململ والشكوى. إذ أن الأعداء، الامبرياليين الأميركيين والأعداء الصهيانة، يتربصون بها، يعيقون وصولها، يكمنون لها عند مضيق هرمز أو باب المندب، وعند قناة السويس أيضاً. كما أن طريق بغداد-دمشق- بيروت للصهاريج، مرصودة بطائراتهم الحربية.. هؤلاء الأعداء هم أصل البلية في انقطاع البنزين عن لبنان. يتآمرون على الشعب ويحرمونه من حاجاته، ليألبوه على المقاومة ومحورها. لكن هيهات.

اللبنانيون الآخرون يمكنهم، كل حسب ولائه وطائفته وزعامته، أن يغضبوا ويصبوا جام غضبهم على من يرونه مسؤولاً عن مأساتهم. يمكنهم أن يشتموا باسيل أو عون أو الحريري أو نبيه برّي أو وليد جنبلاط أو سليمان فرنجية.. أو حتى رياض سلامة. فهؤلاء لهم لبنانهم الفاسد والمتهافت.. أما نحن فلدينا ملجأنا في حضن المقاومة وجمهوريتها النووية الأبية، الغنية بالنفط.

وحتى لو لم يأت بنزين إيران أبداً، فهذا لا يُنقص شيئاً من الإيمان، ولا يصدّع من إرادة الصمود. فإن من يبذل الدم والروح تهون عليه بسهولة فائقة أن يضحي بسيارته و"فانه" وشاحنته. وما النصر إلا صبر ساعة.

أبعد من ذلك، من يحاول التجني على "المقاومة" ويرمي عليها مسؤولية فقدان البنزين أو استيراده، عليه أن يدرك أن ذلك من مسؤولية الدولة لا مسؤولية الحزب البريء تماماً مما أصاب البلاد. وما تنكّب المقاومة لوعدها بجلب البنزين الإيراني إلا من عظيم تحسسها لمعاناة الناس وحرصها الشديد على رفاههم وراحتهم.

بهذه الروحية، تصطف طوابير السيارات الخالية من سائقيها، يوماً بعد يوم، أمام المحطات الخاوية خواء الصحراء من الماء، بكل إباء وإنفة وكرامة.

بهذه الروحية الانتصارية، تباً لدولارات الدعم وللدولة وحليبها ودوائها وبنزينها ومصرفها المركزي ولما يسمى اقتصاد وتصدير واستيراد. فقد نجحت المقاومة طوال السنوات العشر الأخيرة في تأسيس اقتصادها الشريف، بالدولار الحلال، وتجاراتها ومعابرها وبضائعها.. وستأتي كهرباؤها وبنزينها شاء من شاء وأبى من أبى.

وفي طريق العودة من الجنوب.. خُيل إليّ، وأنا عالق على أوتوستراد قطعه شبان الغوغاء بدواليب مشتعلة، أقرأ يافطة عملاقة "القدس أقرب من أي وقت مضى"، وقد ازدحمت الطريق إليها بطوابير مئات الكيلومترات من السيارات متوقفة هكذا إلى ما لا نهاية بلا بنزين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها