الخميس 2024/05/02

آخر تحديث: 15:21 (بيروت)

الموت والإجرام والعنف.. والتعاسة اللبنانية

الخميس 2024/05/02
الموت والإجرام والعنف.. والتعاسة اللبنانية
استرخاص الحياة وهدرها (Getty)
increase حجم الخط decrease

قبل أيام، توجه شابان سوريان، من الذين يكدحون من أجل البقاء على قيد الحياة، نحو بحر بيروت، بحثاً عن ساعات قليلة من الراحة والترفيه المجاني الذي قد يمنحه الشاطئ المفتوح.

القسوة اليومية المتأتية من الفقر ومذلة التمييز والغربة عن وطنهما والعمل بظروف استغلالية والشعور بالحرمان من متع الحياة، دفعهما للطمع بشيء من البهجة قد يقدمها هذا البحر المتوسط. غامرا بالسباحة حتى الموت.

انتهت حياتهما غرقاً، وهما لم يقصدا ما يفعله الألوف من أندادهما الذين يركبون القوارب نحو الشواطئ الأوروبية، منهم من يصل ومنهم من تبتلعه الأمواج، في واحدة من أكبر مآسي زمننا المعاصر والمستمرة على طول الشواطئ الشرقية والجنوبية للمتوسط.

وقبل أيام أيضاً، تسعة عمال تعساء لبنانيين وسوريين ومصري واحد، قضوا اختناقاً جراء حريق جهنمي، ناتج عن إهمال واستهتار موصوفَين كسمة عامة في هذه البلاد التعسة.

أمس أيضاً، تكشّفت جريمة واسعة النطاق، منظّمة ومتمادية منذ سنوات، تقوم بها عصابة كبيرة متخصصة باغتصاب الأطفال و"إنتاج" فيديوهات جنسية، بما يشكل واحدة من أكبر القضايا الإجرامية التي ستهز المجتمع اللبناني وتطال مئات الأسر. وستكون بلا شك تحدياً قضائياً صعباً ومؤلماً، لما في تفاصيلها من وقائع مروعة وفضائحية.

ربما لم تتجاوز تلك الحوادث والجرائم المعدلات المعروفة وفق الإحصاءات الباردة التي تصدرها قوى الأمن، لكن الصادم هو في التحول النوعي. نمط العنف من ناحية، تكاثر الحوادث الناجمة عن الإهمال الفادح، طبيعة الجرائم المتصلة بوسائط التواصل الاجتماعي، الهشاشة الأمنية، ضعف السلطات القضائية، وكذلك ضعف الأمن الوقائي والاستباقي.

يضاف إلى كل هذا، التداعيات اللامادية للانهيار الاقتصادي وتأثيره الشديد على شرائح اجتماعية منهكة ومفقرة، يجعلها بيئة مهيأة للجريمة من ناحية، وهدفاً سهلاً في الوقت نفسه لكل الشرور.

على نسق مأساة غرق الشابين السوريين ووفاة تسعة عمّال، يموت يومياً الكثير من ضحايا حوادث السير أيضاً على الطرقات الجنونية، أو بانهيار مبنى متداعٍ، أو بحالات تسمم غذائي، أو جراء محاولة سرقة تافهة، أو تمديدات كهربائية سيئة..إلخ، بمعدلات تشي أن الاستهتار واللامبالاة واستشراء العنف والعدوانية، وإهمال شروط السلامة، علاوة عن ضعف أجهزة الرقابة وقوى إنفاذ القانون.. مهيمن على حياة اللبنانيين الذين يحاولون "تنظيم" فوضاهم العارمة بالمزيد من الفوضى وبكثير من العنف السلوكي واللفظي.  

بموازاة ذلك، تأتي وقائع إجرامية مهولة بتفاصيلها، ومرعبة في تكاثرها وفي غلبة الشر المحض عليها، خصوصاً ما تتعرض له الفئات المستضعفة، كالعمال الأجانب واللاجئين والنساء والأطفال.

قضية تلك العصابة من الرجال الذين شكلوا شبكة لاصطياد الأطفال والقُصّر واستغلالهم بدناءة فظيعة، والاعتداء عليهم، والمتاجرة (على الأرجح) بفيديوات الاغتصاب الجماعي، تكشف أولاً أن المتورطين فيها هم أصحاب مهن ولديهم اكتفاء مادي ظاهر، وقدرة مالية تتيح لهم "تمويل" أعمالهم. أما الفضيحة فهي بوجود هذه العصابة الكبيرة التي تضم حوالى 30 شخصاً، وتماديها زمنياً لسنوات عدة في أفعالها من دون انكشافها باكراً. وهذا يدل أيضاً على تقصير أمني فادح من جهة، وعلى معضلة "قانون الصمت" الذي حكم الضحايا طوال هذه المدة.

لكن الأهم هو "جرأة" العصابة وشعورها بالأمان طوال كل هذه المدة. فالسائد لبنانياً هو الاعتقاد بغياب المحاسبة والعقاب، وهيمنة سياسة الإفلات من العقاب في كل الجرائم أكانت كبيرة بحجم تفجير عاصمة، أو صغيرة بحجم موظف يختلس الأموال العامة.

استباحة كرامة الناس وأمنهم، الاعتداء على الضعفاء، استرخاص الحياة وهدرها، تجاوز القوانين بلا وجل، تفشي الجرائم وعصابات الجريمة المنظمة. كل هذا من ثمار سنوات مديدة في التهام الدولة واستباحة المجتمع وانتصار ثقافة العنف (وتمجيده أحياناً). سنوات من العيش في تعاسة وطنية تبدو وكأنها تتحول إلى نمط حياة على امتداد مستقبل منظور.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها