طعم جديد لتحرير الجنوب بعد انتصار غزة

ظهيرة الواحد والعشرين من أيار العام الفين، تواردت من بلدة القنطرة المحتلة أخبار إلى القرى على الكتف الثاني لوادي الحجير (الغندورية، فرون، برج قلاوي، وغيرها) عن بدء تفكك ميلشيات أنطوان لحد، ذراع الاحتلال الإسرائيلي، وإخلائها مواقع في البلدة ومحيطها.

لم ينتظر الشبان في هذه البلدات طويلاً، ومنهم محمود الشامي وحسن حمدون وعلي رمضان وجمع من أبناء المنطقة المبتهجين، فأقتلعوا البوابة الحديد عند نقطة القوة الفنلندية العاملة ضمن قوات اليونيفيل في بلدة الغندورية، الواقعة على فم وادي الحجير المؤدي إلى القنطرة ودير سريان وعلمان والطيبة. وكان الوادي ممراً لرجال المقاومة بأطيافهم كافة، وشاهداً على معركة اصطياد دبابات الميركافا بصواريخ المقاومة "الكورنيت " في حرب تموز-آب 2006.

واكتمل التحرير
في وقت قصير امتلأت الطريق الضيقة المتعرجة المكسوة جنباتها بأشجار البلوط، ببحر من الناس وصولاً إلى بوابة "المحيسبات" على مقربة من قرية دير سريان في منطقة مرجعيون. وكانت تتمركز فيها قوة من الكتيبة الفنلندية. ولم تصمد البوابة الحديد دقائق أمام المحتشدين المتدفقين إلى المنطقة التي بقيت 22 عاماً تحت الاحتلال. وذهل عناصر القبعات الزرق الذين ذاقوا كغيرهم من اللبنانيين اعتداءات إسرائيل، ولا سيما موقعهم في وادي الحجير.

بحكم عملنا كمراسلينن صحافيين في منطقة صور القريبة جغرافياً من الغندورية، كنا من أوائل الواصلين إلى المناطق المحررة. فرحنا ننقل بعدساتنا وعلى أثير الإذاعات والشات التلفزيونية مشاهداتنا: فرح الناس ولقاء العائدين والصامدين، وتطهير مواقع الاحتلال وميشلياته التي فرت مخلفة آليات ومدافع في الدشم، التي كانت تمعن في قصف المناطق المتاخمة المحررة.

وبعد اليوم الأول من التحرير، راح الأهالي يجتاحون المعابر، من بيت ياحون إلى حولا وجسر الحمرا وكفرتبنيت وزمريا. وفي 25 أيار اكتمل تحرير منطقة ما كان يسمى الشريط الحدودي المحتل، من أقصى الناقورة إلى شبعا وكفرشوبا ومرجعيون وحاصبيا، مروراً بعيتا الشعب ورميش وببنت جبيل وحولا وميس الجبل وسواها، على مساحة ما يزيد على ألف كلم مربع.

التحرير الذي حصل بفعل المقاومة وصمود أبناء القرى المحتلة والمحاذية، ما يزال طعمه حاضراً بعد مرور 21 عام، متزامناً هذه السنة مع صمود غزة في فلسطين وانتصارها.

قصور وحرمان وفرح
ولكن المناسبتين تحلان تحت وطأة أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة على أبناء المناطق المحررة، التي ما يزال يلفها حرمان الخدمات، بالرغم من القصور المتلألئة على هضابها وتلالها، وقد شيدها مغتربون في المهاجر، وعائدون ليفتحوا صفحة جديدة لحياتهم.

وكانت بلدتا كفرشوبا وشبعا من أوائل القرى الجنوبية التي احتضنت المقاومة الفلسطينية واللبنانية في الستينات، وسقط على تخومهما أوائل الشهداء اللبنانيين، ومنهم أمين سعد "الأخضر العربي"، ابن بنت جبيل عام 1969، وهو أحد مقاومي طلائع حرب التحرير الشعبية في منظمة الصاعقة.

وما يميز العيد الـ21 لدى قاسم القادري، رئيس بلدية كفرشوبا، هو رونق الانتصار في غزة وانتفاضة ومقاومة فلسطينيي 48 التي شكلت تحولاً في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، بفعل إرادة ومقاومة الشعب الفلسطيني.

ويتابع القادري: كنت أتمنى أن تكافأ المناطق المحررة على صمودها، بخطة إنمائية شاملة ورعاية خاصة من الدولة الغائبة عن احتياجات الناس.

شهيد حي
ورميش قرب بنت جبيل، هي واحدة من أكبر بلدات الجنوب التي تشتهر بزراعة التبغ على الحدود الفلسطينية مباشرة. ويعرب راعي رعية رميش للموارنة الأب نجيب العميل عن تجدد شعوره بتحرير الجنوب. ويقول: نشكر الله على الهدوء الذي ننعم به اليوم على كافة المستويات. ولكن ما يضيرنا في هذه الأيام الصعبة هو اشتداد الأزمة المعيشية والحياتية في مناطقنا.

وقد استشهد ابن بنت جبيل يوسف أمين سعد تحت التعذيب على يد إسرائيل وعملائها في ثكنة بمنطقة صف الهواء في أوائل أيار 1991 بسبب مقاومته ورفضه الاحتلال، ثم أبعدت عائلته إلى المناطق المحررة. وها أحد أبنائه رضا "شهيد حي" اليوم. وكان فتى حين اندفع يوم التحرير مع مجموعة من رفاقه نحو بنت جبيل، انطلاقاً من تبنين، فيما أطلق بعض عناصر الميليشيات التابعة لإسرائيل في بيت ياحون النار في اتجاه الشباب المتلهفين إلى تقبيل أرضهم، فكان نصيب المقاوم رضا أن أصيب إصابة بالغة في رقبته، ومكث مدة طويلة في المستشفى بين الحياة والموت.

وكان مصطفى صبرا ابن قرية القنطرة في سن السادسة عشرة عندما ترك بلدته هرباً من التجنيد الإجباري في صفوف ميلشيات لحد. ويوم 21 أيار ألفين، اجتاز وادي الحجير إلى القنطرة عبر بوابة التحرير. وهو يرى اليوم أن تحرير الأرض لم يكتمل بتحرير الإنسان وبناء دولة القانون ومحاربة الفساد والمحسوبيات التي سقط في سبيلها آلاف الشهداء والجرحى، وزج بآلاف في السجون الإسرائيلية وسجن الخيام الذي كان صورة وطن .