الأربعاء 2020/08/05

آخر تحديث: 00:04 (بيروت)

القتلة المحليون الذين يحكمونا

الأربعاء 2020/08/05
القتلة المحليون الذين يحكمونا
مجزرة موصوفة عن سابق تصوّر وتصميم، أو سابق علم ومعرفة على الأقل (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease
صنعت الدولة اللبنانية قنبلة موقوتة وزرعتها في مرفأ بيروت. على مرأى وممرّ من جميع اللبنانيين، من مختلف المناطق والطوائف والأهواء السياسية. استهدفت الدولة مواطنيها بانفجار المواد المخزّنة في المرفأ منذ أشهر، من دون أدنى حسّ بالمسؤولية البشرية والإنسانية والسياسية. سفّاحو الدولة اللبنانية، الممسكون بأمنها ومؤسساتها وقرارها استكملوا اليوم مسلسل قتلهم للناس. القتل بالمباشر هذه المرة، من دون خنق مالي ولا تعذيب معنوي. قتل مباشر عن سابق تصوّر وتصميم، أو سابق علم ومعرفة على الأقلّ. هذا القتل ليس حادثاً بل نهج، حلقة من حلقات الجريمة المنظّمة. هو اغتيال واضح. مجزرة بنيترات الأمونيوم المخزّن في المرفأ.

نكبة بيروت
كأنّ بيروت خارجة من سقوط نيزك. سقط في المرفأ وارتفعت الحمم حوله. خلّف ضغطاً شاهدناه بالعين المجرّدة قبل أن يبتلعنا. وخلّف خراباً، قتلى وجرحى. بيروت عاصمة منكوبة، أهلها مشرّدون ومبانيها مدمّرة بالكامل. واجهاتها الزجاجية انتزعت من مكانها، باتت المدينة هيكلاً عظمياً. المدينة التي ماتت ببطء قبل أشهر، بقيت جثتها مجثاة. وجاء الانفجار لنهش ما تبقى فيها من لحم عالق. الجميزة، بدارو، راس بيروت، أحياء مهشّمة بالكامل. ولا عدد فعلياً للضحايا بعد، لكن مشهد الجثث يغطّيها التراب في أرض المرفأ يوحي بعدد هائل. كأنّ بعض الضحايا دُفنوا حيث هم، وآخرون سقطوا في مكاتبهم، على كراسيهم، وفي سياراتهم. انفجار استهدف كل الناس، كل المدينة، كل البلد. 

متحوّلون جينياً
انفجار مرفأ بيروت، صياغة لنعوة بيروت المتوفاة. ماتت المدينة يوم ماتت الدولة بسقطوها بيد العصابة الحاكمة. لا كلام يفي وصف هول أفعال هؤلاء. قتلة، سفّاحو السلم والحرب، مصاصو دماء، بشر متحوّلون جينياً إلى وحوش لم تعرفها الطبيعة بعد. في وصفهم تنتهي موسوعات الشتم وكل صفات العطل والسوء. أول ما فعلوه أنهم تفقدوا بعضهم، تواصلوا واطمأنوا على سلاماتهم. حتى أنّ بعضهم استقبل بعضهم الآخر، في حين أنّ أشلاء الناس منتشرة في الطرقات وأمعاء المباني أفرغت في الشوارع. أعلنت الدولة اللبنانية الحداد على الضحايا، بعد أن قتلتهم. مجدداً يمشي المسؤولون في جنازات قتلاهم.

الموت المقبل
في 15 عام من الحروب المتنقلة، لم تقترف الميليشيات مجزرة مماثلة. في 45 عام من الحرب والعداء، لم يرتكب العدو الإسرائيلي مقتلة مماثلة. في 30 سنة من الوصاية، لم يرتكب نظام الإجرام السوري مذبحة مماثلة. إلا أنّ زعماء تلك الميليشيات، اجتمعوا ونظّموا أنفسهم وارتكبوا جرماً مشتركاً، باسم الدولة اللبنانية، وهو الأكبر في تاريخ لبنان. أن يصدر عن الدولة اللبنانية، فهو إمعان في القهر والقتل والتنكيل. اعتراف أخير بأنّ لا ملجأ للبنانيين سوى حكومات الخارج، التي يمكن أن تستقبلهم لاجئين ومهاجرين، وفي الحالتين ناجين. يحاصرهم عدو جنوباً، وآخر شرقاً وشمالاً، وفجّرت دولتهم البحر أمامهم. فجلسوا في منازلهم ينتظرون موتهم المقبل.

"أمل" بإسرائيل!
كان الأمل الفعلي بأنّ يصحّ سيناريو الاستهداف الإسرائيلي لمرفأ بيروت. أوصلتنا السلطة وزعماؤها، إلى تمنّي أن تكون المقتلة على يد العدو الإسرائيلي. لا نهوى الموت ولا القتل، لكن إن حصل فالأفضل أن يأتي على يد عدو. وصدور القتل عن دولتنا، يعني أننا نجلس عراة، ضحايا سهلة في حقل تجزير مستمرّ، يرتكب فيه القريب والبعيد في جثثنا. كان اللبنانيون قد فقدوا الأمل بأحزابهم وبسلطاتهم، لكن الارتكاب الأخير مفصلي.

هو مشهد ختامي حزين، أطلّ خلاله رئيس الحكومة حسان دياب للقول للبنانيين إنّ "بيروت ثكلى ولبنان كله منكوب". طالب دياب اللبنانيين برصّ الصفوف ومواجهة المشهد بالوحدة الوطنية، محطة جديدة يجلس فيها القاتل مع الضحية لمواساة أهلها. بدل أن يعلن استقالته ويرحل، سجّل لائحة مطالب. على يديه، وسائر أيادي مسؤولي الدولة، دماء أكثر من خمسين شهيداً سقطوا في بيروت اليوم، عدا مئات الضحايا الذين يسقطون يومياً مرضاً وجوعاً قهراً. عدا الآخرين الذين سيسقطون بعد ساعات، أو أسبوع أو أكثر. نكبة بيروت في 4 آب، مسؤوليتها برقبة مسؤوليها الذين يمعنون في نحر رقاب الناس. هم قتلة، ولا وصف أقل عياراً يفيهم حقّهم. قتلة عليهم الرحيل، الآن، اليوم قبل الغد، بالهينة أو الصعبة. عليهم دفع أثمان ارتكاباتهم، بالقانون أو خارجه، في الشارع أو في قاعات المحاكم. قتلة حان أوان اقتلاعهم، قبل مقتلة جديدة أو حداد آخر. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها