الجمعة 2020/03/27

آخر تحديث: 00:03 (بيروت)

فئران تجارب محكومون بجحورنا

الجمعة 2020/03/27
فئران تجارب محكومون بجحورنا
نحن فئران التجارب، إن خرجنا من مختبراتنا أكلتنا القطط في الشوارع المهجورة (Getty)
increase حجم الخط decrease
يوم آخر من زمن كورونا، يتكرّر. الصباح نفسه، والمساء نفسه، وبينهما النمط نفسه في انتظار أخبار وزارة الصحة وأرقام الضحايا، ومستجدّات المرض والمختبرات والفحوص وتجارب اللقاحات والأدوية. وفيه اليوم المتكرّر أيضاً، انتظار أنباء عن إصابة كبار الجزّارين، من سياسيين وتجار، محليين وعرب وإقليميين ودوليين. هي أنباء لم تصدر بعد، وربما لن تصدر.

فهؤلاء مجبولين من طينة غليظة يبدو المرض غير قادر على اختراقها. الفيروس عصيّ عليها. وهم ربما لا يشعرون مثلنا بالخطر، ليسوا مثل كل الناس. أفراحهم بذخ، انتصاراتهم دماء، الموت ثأر ومبارزة، بكاؤهم لا ملح فيه. أحاسيسهم مختلفة باختلاف مقارباتهم لما يحصل، ولو كان مشتركاً وعاماً. فعلاً هم في كوكب، والناس في آخر. أو ربما الكل موجود على الكوكب نفسه لكن بأزمنة مختلفة. حتى في كوكب كورونا، الذي فيه نفس الزمان والتوقيت والموت، يختلفون عنا. فبينما عداد الموت شغّال، ينشغل المحلّيون منهم بالصفقات والتعيينات وتمرير القوانين. وحولنا ينشغل واحد من هؤلاء بإعادة فتح الأسواق، وآخر باستعراض زيارة مشافي كورونا، وثالث بمعركة إدلب ورابع باستمرار التخطيط لتدمير كل ما حوله.

فئران كثيرة
كالفئران، وهي كائنات خلوقة أساساً، نعيش في عالم كورونا. لم يختلف الواقع على الشعوب المسحوقة أصلاً. شعوب مسالمة تدور في قفصها، تدّعي العمل وتتصنّع الانشغال. تأكل، تعود إلى حضن القش وتنتظر مصيرها في التجارب. تجارب القمع والأسلحة حيناً، والنظريات الاقتصادية حيناً آخر، والتوافقات الكونية في تجارب ثالثة. واليوم الحال نفسه، المرضى ينتظرون كالفئران تجارب الأدوية لكن بشكل مباشر هذه المرة. إن فشلت التجارب ماتوا. وإن نجحت، يعودون إلى أقفاصهم لخوض تجارب أخرى. يعودون إلى حياة يظنّونها طبيعية. يفرحون بحرية التنقّل من جديد، ويهلّلون لرؤية زملائهم الفئران، من أصدقاء وأقارب وجيران وربما خصوم حتى.

سقطات يومية
الجميع بانتظار الانتصار على المرض. وفي أيام الانتظار هذه، نحن الفئران، علينا التعامل مع كل ما يصيبنا أفراداً وجماعات. ليست المصائب والمآسي جديدة علينا، لكن مع كورونا لها طعماً خاصاً. بائع خضار على بسطة يفقد أعصابه ويتحمّم برزقه، نفقد أعصابنا ونشتم معه. صاحب سيارة أجرة يحرق سيارته قهراً وغضباً، فنُقهر ونغضب. يسقط شاب أرضاً من عوارض كورونا، نسقط معه لكن نبقى متسمّرين في موقعنا خوفاً من العدوى. تفاعل محدود لكن مبرّر. نتفاعل مع هذه اليوميات والأحداث كما تفاعلنا سابقاً مع مشاهد الذل في المصارف، على أبواب المستشفيات، وحافات قصور السياسيين والنافذين. أيضاً بمحدودية، لكن مبرراتها ليست صائبة بالضرورة.

المختبر السعيد
توقظ هذه السقطات فينا كل حسّ إنساني وبشري. نعبّر عنه بوضوح، ونضجّ المختبر كله بصريرنا اللامتناهي. لكن أثر كل هذا عند أصحاب المختبر غير معروف. يقودوننا إلى لوحة المجهر لمعاقبتنا، يشرّحونا، يحقنون سموم الأفكار في رؤوسنا. فتستمرّ حياتنا في المختبر السعيد وتتوالى أحداثنا. نحن فئران تشعر، تعيش كل هذا الذلّ لكن أحاسيسنا موجودة. لذا حسابنا مضاعف. خاضعون للذلّ وراضون به. وعندما انتفضنا على كل ذلك، لم يُترك سمّ إلا وحُقِنّا به. حتى أنّ بعض أخوتنا من الفئران تسلّقوا علينا.

لا يصيب كورونا جزّاري مختبرنا. ربما يمقتهم كما نمقتهم نحن، يهابهم. يخاف الفيروس إن مسّهم أن يتلوّث بهم. سمومهم أقوى منه، وإذا دخل عليها مات. يخشى على نفسه منهم، فيتّقي شرّهم ويتحالف معهم علينا. نموت ليحيوا هم، من جديد تتكرّر فصول الرواية والتجارب منة دون أي تغيّر في مضمونها. ونحن الفئران، إن خرجنا من هذا المختبر، أكلتنا القطط خارجاً في الشوارع المهجورة. فما علينا إلا لملمة أذيالنا والعودة إلى الجُحر، المسمّى اليوم حجْر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها