الأربعاء 2020/01/08

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

حسن نصرالله.. ومعايشة الموت

الأربعاء 2020/01/08
حسن نصرالله.. ومعايشة الموت
ظهر نصرالله وكأنه ينتبه إلى خلو الدنيا من أصدقائه وأخوته تباعاً (المدن)
increase حجم الخط decrease

يربض حسن نصرالله في حصنه السري، منذ أن أعلنت إسرائيل نيتها قتله عام 2006. وطوال هذا الوقت، تحول إلى خطيب تلفزيوني، أو بالأحرى إلى ظاهرة تلفزيونية – سياسية، خفي جسداً وعلني صورةً. بات كينونة ملتبسة، حقيقية لكن أيضاً أثيرية، طالما أن لا وجود له إلا في مشهد واحد متكرر، في الاستديو نفسه، كمذيع استثنائي. نجم خارق للعادة. لكن أيضاً يستعصي على الحضور خارج الشاشة إلا سراً وخفية.

على هذا الوجود الملتبس، تحوّل نصرالله إلى ما تخيله ذات مرة جورج أورويل في روايته "1984" القائد أو الزعيم أو الحاكم، "الأخ الأكبر": صورة تلفزيونية مهيمنة على العالم وسكانه.

وإذا كان التلفزيون بحد ذاته سلطة، فإن "إطلالته" بوصفه قائداً مسلحاً بعشرات آلاف الصواريخ، وبعشرات آلاف المسلحين القادرين على تحويل حياتنا إلى جحيم برمشة عين، ويستطيع زرع الموت أنى شاء.. تتحول إلى سلطة مضاعفة، مناسبة تحمل رهبة تقرير المصير عند كل حادثة أو أزمة. فخطبة نصرالله هي السياسة كلها، إن ابتسم أو قطب حاجبيه، ناهيكم عن ذاك الإصبع إن ارتفع توعداً وتهديداً.

هذه الشخصية التلفزيونية التي تجمع في زيّها وعباراتها وأفكارها و"قيافتها" ما بين الميتافزيق الديني وتهويماته الأسطورية، وما بعد الحداثة الفنية البصرية على اقتدار تمثيلي وحرفة أدائية، تصوغ اقتراحاً لصورة السلطة على نحو لم يستطعه لا "الإعلام الديموقراطي" ولا "الإعلام الاستبدادي". فسياسيو الديموقراطيات هم فرائس التلفزيون وضحايا كاميرات الباباراتزي على الأغلب، وسياسيو الديكتاتوريات كارهون للإعلام وسيئو الأداء، أعداء بالفطرة للصورة، وممثلون رديئون، ومزيفون على الأغلب.

على عكس هؤلاء، نصرالله ممتنع عن التصوير وعن أي كاميرا، وفي الوقت نفسه حريص على الظهور، محب وراغب لشاشته. فهل نتخيل ما مصير سطوة نصرالله ونفوذه وسلطته لولا حضوره التلفزيوني، ولولا وجود هذه التكنولوجيا؟

في خطبة رثاء قاسم سليماني، وعلى منوال خطب رثاء عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، ظهرت "عاطفية" نصرالله على نحو محيّر، يختلط فيها الابتهاج بالشهادة بمرارة الفقد، خياليات الفردوس الإلهي وواقعية الموت العنيف والصادم. عاطفية تتنازعها غبطة لقاء سليماني والإمام الحسين، على ما صورته رسوم انتشرت ما بين إيران ولبنان، وحرقة تمزق الجسد أشلاء.. راح نصرالله نفسه يسرد تفاصيل تقطّعها يداً ورأساً وجذعاَ وأرجلَ مبتورة استلهاماً لفظاعات الموت الكربلائي – العاشورائي.

ما بين الاحتفاء بنيل الشهادة والصعود إلى الجنة "سيداً لشهداء محور المقاومة"، كما تم ترسيم قاسم سليماني ووسمه بقرار رسمي مبرم، والتفجّع والغضب من هكذا مصير مروّع، رثى نصرالله صاحبه وباركه في آن واحد. كأنما الموت عرس ومأتم في صالة واحدة.

لكن لا حيرة في نفس نصرالله الثابت على يقينه وإيمانه، وقسمته ما بين حساب الأرض وحساب السماء، ما بين البشري والإلهي. وبشريته المتآخية مع ميتافيزيقيته لا تمنع عنه ضعفه العاطفي، وتنازع أهواء الحزن والفرح في الواقعة الواحدة وفي طقس خطابي متوزع على تقبل نعمة الموت في سبيل الله والناقم على هكذا مصير مفجع وداهم.

ومن هذا الضعف، ظهر نصرالله وكأنه ينتبه إلى خلو الدنيا من أصدقائه وأخوته تباعاً، وهو الذي يحمل جرحاً أصلياً بفقد ابنه الشاب هادي، ثم أُثخن بجروح "قافلة شهداء" الأصحاب، خصوصاً اليوم مع سليماني وأبو مهدي المهندس، اللذين اعتادا زيارته، وألِف صحبتهما حسبما راح يروي بعضاً من حميميات لقاءاتهم سوية وأحاديثهم المفعمة بترقب الموت و"الجوار المخيف" والتأسف على النجاة من محاولات الاغتيال، كما روى نصرالله عن لسان سليماني.. ويمكننا تخيل هكذا "مسامرات" أثناء احتساء أكواب الشاي، وتبادلهم المواساة والدعاء بطول العمر أو بنيل الشهادة في أقرب الآجال. وهنا نستطرد متخيلين لو أن الحضارة البشرية كلها سهراً أو علاقات أو اجتماعات أو لقاءات ومواعيد منذورة فقط لهكذا أحاديث، فأي ازدهار سننعم به.

وحديث نصرالله هذا، يشي أن الأمين العام لحزب الله يشعر بعد توالي اغتيالات أصحابه بشيء من الخطر. وهو لمّح تلميحاً طفيفاً إلى وجود لائحة، لا شك أنه لا يستثني نفسه منها. وهو بدا في ذاك التلميح على شيء من القلق لا على نفسه بل على مصير "المحور" ومهمته المقدسة.

وعلى الرغم من أنه قال بما معناه إن لم نُقتَل ننتصر وإن قُتِلْنا ننتصر، في حل سحري لنفي الهزيمة حتى ولو نخرت العظام ووزعت اللحم والدم أشلاء، إلا أن لا نفسَ تطيق تصور حالها إرباً إربا.. فالجسد عزيز كما الروح عزيزة. ثم أن لا أحد مهما كانت شهوته للشهادة عظيمة، يريد منح العدو فرصة تحقيق غايته بالقتل. لا أحد يريد أن يشفي غليل عدوه.

ونصرالله، الذي يحب إطلالاته التلفزيونية ويحب رؤية تلك الحشود التي تهتف له، إنما هذا هو ما تبقى له من متع الدنيا الحلال. وهو يحسب أيضاً أنه في كل "طلة" يبث الغيظ في صدور الأعداء. ولذا، هو ضنين بحياته وطول عمره لا أنانية أو قلة إيمان، فحياته هي ديمومة وضمانة للحرب أو للمنازعة. حياته هي غلبة على الأعداء، بل هي ربما مشيئة إلهية مجدولة بوعد النصر والصلاة في القدس.

وفي الأثناء تستمر السياسة والاقتصاد وشؤون المجتمعات والبلدان ومصائرها كلها معقودة على الحرب الأبدية، كما تخبرنا رواية جورج أورويل عن العيش مع "الأخ الأكبر"، تلفزيوناً وواقعاً، حياة مترعة بالموت لا تحدها أرض كربلاء ولا تحصرها أيام عشرة غابرة، بل هي في كل مكان وكل زمان وإلى قيام الساعة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها