الإثنين 2019/08/19

آخر تحديث: 01:06 (بيروت)

أزمة حزب الله المالية: خفض الموازنة لاستمرار آلة الحرب

الإثنين 2019/08/19
أزمة حزب الله المالية: خفض الموازنة لاستمرار آلة الحرب
"العقوبات لم تؤثر علينا، لأننا نتقاضى أموالنا نقداً من إيران. وتأتي بالصناديق كما السلاح" (Getty)
increase حجم الخط decrease
تجلس أم علي الثمانينية على كرسيٍّ خشبي متآكل أمام باب منزلها المتواضع، في أحد الأحياء الشعبية في ضاحية بيروت الجنوبية. إلى  جانبها عصاً تتكئ عليها عندما تمشي. تراقب المارّة بصمت، وتنتظر حصةً غذائية لم تصل بعد.

أسألها عن سبب تأخّر الحصة، فتجيب: "ليست المرة الأولى، فالشباب في أزمة. حماهم الله وأعاننا على ما تبقى لنا من عمر.. ليسوا مجبورين بي وبزوجي المريض، عتبي على الدولة وليس عليهم"!

نصرالله وجهاد المال
بعد أكثر من أشهر خمسة على اعتراف أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله، بأزمة حزبه المالية، ودعوته جمهوره للتبرع بأموالهم لصناديق "هيئة دعم المقاومة الإسلامية"، تحت مسمى "جهاد المال"، لا يزال الحديث عن هذه الأزمة ضربٌ من التهور، أو مغامرة سياسية، أوسياسة مضادة قد تصل إلى اتهامك بالعمالة أو الكفر أو معاداة المقاومة في أحسن الأحوال. لكن من زاوية صحافية بحتة، قررنا اختلاس السمع لمعرفة ما يحصل في كواليس حزب الله، بطرقٍ مباشرة وغير مباشرة.

كان علينا أن نسلك سبل التسلل إلى بيئة حزب الله، لأن المنتسبين إليه - أضربت الأزمة جيوبهم أم لم تضربها - مستعدون للكلام عما يتخطى الموساد أو الجنس خطورةً، لكنهم يمتنعون عن تسريب معلومةٍ صغيرة عن أزمة حزبهم المالية، قبل أن نضع بين أيديكهم اعترافاً رسمياً عن تفاصيل الأزمة.

حسومات متنوعة
يتذمر أحد المسؤولين من عدم دفعه الرواتب لما لا يقل عن 30 شاباً منتسباً إلى حزب الله في نطاق مدينة بيروت. أمام ابنته يتذمر من الوضع المالي، قائلاً لها: "الأزمة المالية مرّت على الصغير والكبير في الحزب". وحسب ما تنقل ابنته عنه لـ"المدن"، فإن "التأخير في الرواتب طال الجميع، وبالكاد يحصل أحدهم على راتب شهرٍ واحد كل شهرين أو ثلاثة".

ويفشي شقيق أحد المنتسبين لحزب الله (المعروف بنشاطه الاجتماعي لا العسكري) في الهرمل، بعض المعلومات التي استقاها من شقيقه مؤكداً: "الحسومات وصلت إلى 15 في المئة من الرواتب، عدا عن التأخير. والمساعدات الانسانية من مادية وغذائية، توقفت". وهي ما يمنحه حزب الله للعائلات المحتاجة التي لا معيل لها وتدين له بالولاء، و"تشكل 30 في المئة من ميزانية الحزب، وتتجاوز الحدود اللبنانية لتصل الى عائلات لبنانية في القرى السورية الحدودية". أما الطبابة والتعليم فلم يتأثرا، حسب شقيق المنتسِب: "لا زالت على حالها، 100 في المئة للمدارس، وبين 75 و100 في المئة للاستشفاء، مع بعض التأخير في دفعها".

بدوره ينقل مصدر مقرب من أحد المسؤولين الحزبيين في نطاق قضاء النبطية، لـ"المدن"، بعض تفاصيل الأزمة التي "عمرها أكثر من سنة، لكنها تفاقمت في الأشهر الفائتة. وهي أثّرت على نوعية النشاطات والمهرجانات، وعلى عقود بعض المتعاقدين مع الحزب، وعلى توقيت دفع المستحقات المالية".

مجاهد "فريلانس" وتسريح
"بعد فسخ عقود التفرغ مع نسبة كبيرة من المجاهدين، وهم في معظمهم من العائدين من الجهاد (الحرب) في سوريا، بات الاعتماد على هؤلاء غبّ الطلب، لكن التعامل معهم تغير: صار على القطعة (فريلانس)، ويخصص مبلغ مادي معين لكل منهم مقابل خدماته الاجتماعية، الإدارية، التنظيمية، أو العسكرية"، حسب شهادة أحدهم المتذمرة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المجاهدين على الخطوط الأمامية "وضعهم مختلف": لم تشملهم سياسة الحزب التقشفية.  

وتتقاطع المعلومات عن الخطوط الحمر في هذه الأزمة: "أهالي والشهداء والجرحى، والعاملون في المطبخ اللوجستي العسكري ومسؤولي المناطق، لم يتأثروا بالأزمة". أما وسائل الإعلام التابعة لحزب الله، فطالها التأخير في دفع الرواتب، إضافة إلى اعتماد سياسة "الفريلانس"، ما عدا الواجهة الإعلامية المعتبرة أيضاً "من الخطوط الحمر، لأنها مؤثرة في الرأي العام. فأي كلام يصدر عنها يأخذ حيزاً كبيراً من الجدل الذي لا يصب في صالح حزب الله"، علماً أن هناك مؤسسات "تموّل نفسها ذاتياً" لم تتأثر، "كالمستشفيات والمدارس التابعة للحزب".
لكن الأزمة ساهمت في تسهيل عمليات التسريح من حزب الله: "ما يقارب 10 في المئة من المنتسبين سرِّحوا لأسباب مختلفة"، يصفها  مصدر مقرب من أحد المسؤولين الحزبيين أنها "نوعٌ من انتظار الناس على غلطة، كان يُغض النظر عنها سابقاً، كتعاطي المخدرات، أو رفض الذهاب للقتال في سوريا".

الوزارات و"جبنة" البترول
لكن ما البديل؟ يجيب المصدر نفسه: "منذ بدء الأزمة يُعتمد بشكل أساسي على رجال الأعمال وكبار المتمولين المغتربين الداعمين للحزب. الأموال تُنقل عبر قنوات مختلفة، شرعية وغير شرعية". ويكشف المصدر لـ"المدن" عن تزامن زيارة رجل أعمال لبناني - أوروبي لبنان إبان العقوبات الأخيرة التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية على رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" محمد رعد، والنائب في الكتلة أمين شري، والمسؤول الأمني في الحزب وفيق صفا، فيؤكد أن رجل الأعمال هذا من إحدى القرى الجنوبية في محافظة النبطية، وهو ناشط تجارياً بين أوروبا وأفريقيا وآسيا.

وفي صلب البحث عن بدائل مادية، يعوّل حزب الله على العودة إلى الدولة: "بعد مطالبته بحقه في المناصفة في الوظائف الشيعية مع حركة أمل، وبعد تخليه عنها لسنوات، يعمل في الحكومة الحالية على إثبات نجاحه في وزارة الصحة، بوصفها وزارة خدماتية أساسية، للدخول إلى الدولة من بوابتها العريضة في الحكومات المقبلة، وربما إلى أكثر من وزارة خدماتية، أو حتى إلى وزارات وازنة"، حسب مرجعٍ سياسي.
ويؤكد المرجع السياسي أن العمل جارٍ على تسوية تليق بعودة حزب الله إلى الدولة في الحكومات المقبلة عودةً فاعلة. ومواقفه "تسير على ما تشتهي سفن مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، لتسهيل تمريرها، ضماناً لحصّته من جبنة البترول"

أموالٌ بالصناديق
هذه المعطيات، عرضناها مباشرة على مصدر معني بها في حزب الله، فرأى في العقوبات الاقتصادية "بديلاً عن فشل الحرب العسكرية المباشرة على الحزب. كانت البداية مع الوجع الأكبر في اعتقادهم: المصارف. وهي عقوبات لم تؤثر علينا، لأننا نتقاضى أموالنا من إيران (cash). تأتي بالصناديق كما السلاح، وتُهرّب إلى لبنان عبر سوريا، لتوزع (cash) أيضاً، وتُضخ في الاقتصاد الوطني، فنساهم بإنعاشه بطريقة غير مباشرة".

ويكشف المصدر عن أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، طلب من حزب الله وضع الكميات الكبيرة من الأموال التي وصلته بعد حرب تموز وقبل العقوبات، في المصارف اللبنانية، لافادة الاقتصاد اللبناني. وبعد العقوبات، تشددت بعض المصارف في تطبيقها أكثر مما يريد الأميركي نفسه، إلى أن قامت الضجة قبل سنتين ونصف السنة، فأصدر سلامة تعميماً للالتزام بما قررته الخزانة الاميركية، لا أكثر ولا أقل.

ويتابع المصدر سارداً تسلسل العقوبات وصولاً إلى الأزمة الحالية: "عندما فشلوا في الضغط علينا عبر المصارف، ذهبوا إلى العقوبات ضد الأفراد والمؤسسات التي لديها حسابات على  (OFAC)، لإرباك البيئة اللصيقة بحزب الله، كمستشفى الرسول الأعظم وقناة المنار. منعوا هاتين المؤسستين من فتح حساب لهما في المصارف اللبنانية، وحاربوا رجال الأعمال المقربين من الحزب، الأمر الذي سبب للمقربين وجعاً في الرأس وإزعاجاً، لكن ذلك لم يؤثر عليهم عملياً".

ترشيد إنفاق
في هذه المرحلة شُددت العقوبات على ايران التي "بدأت تعاني من نقص في العملة الصعبة لاستيراد بعض البضائع التي لا تصنّعها. نحن كانت الأموال تصلنا من إيران بالعملة الصعبة. بطبيعة الحال انعكست العقوبات على إيران سلباً علينا، فحاولنا التأقلم مع هذا الوضع عبر سياسة مالية جديدة"، يضيف المصدر المعني في حزب الله، رافضاً تسمية ما يحصل بالأزمة، ومصراً على اعتباره "سياسة ترشيد إنفاق". ويشرح تفاصيل هذه السياسة: " منذ انتهاء حرب تموز كان حزب الله ينعم ببحبوحةٍ مالية، وكل ما فعلته العقوبات أنها أنهت إلى حدّ ما هذه البحبوحة، فذهبنا إلى تخفيض كبير في الموازنات التشغيلية غير الرئيسية، بينما المقاومة ببنيتها التنظيمية والعسكرية تعمل على أكمل وجه".

من الأمور التي استُغني عنها، على سبيل المثال لا الحصر، باعتراف المصدر: "إغلاق أكثر من 3500 مركز غير أساسي. التخلي عن سياسة تجديد السيارات التابعة للمراكز. تخفيض ميزانية النشاطات الاجتماعية والثقافية والاحتفالات والإنفاق على تلفزيون المنار. تخفيض المحفزات الكمالية، كالبنزين وغيره.. لكن هذا كله لم يؤثر لا على المقاومة ولا على البنية التنظيمية للحزب. هم كانوا يرغبون أن  يؤثر ذلك على الرواتب، لتعلو الصرخة في صفوف الحزب ويتدنى الانتساب والعطاء، لكن هذا لم يحصل. مرتين فقط منذ بدء العقوبات اجتزئت مبالغ من الرواتب. لكن الوضع منتظم منذ أكثر من 6 أشهر: توزّع الرواتب في يوم 25 من كل شهر، وتصل إلى أصحابها في 30 أو 1 الشهر. وآخر عسكري في سوريا وأول عسكري في الناقورة يتقاضون رواتبهم في اليوم نفسه مع الأمين العام".

الخط الأحمر
وعن الخطوط الحمر التي لم تشملها سياسة ترشيد الانفاق يقول المصدر: "السلاح ورواتب المقاتلين والتدريبات العسكرية هي الخط الأحمر". ولفت إلى أن الطبابة والمدارس والتقديمات الاجتماعية لم تتأثر، بل جرى ترشيدها عبر التدقيق في الفواتير وكلفتها، والبحث عن بدائل أقل كلفة.

في ما يخص فسخ العقود مع بعض المتعاقدين، لا ينكر المصدر أن ذلك حصل، ويوضّح: "في مرحلة من مراحل الحرب السورية اعتمد الحزب على نظام التعاقد، لكن مع هدوء الحرب هناك وترشيد الانفاق قلّت العقود. فكل متعاقد على برنامج معين، اجتماعي أو عسكري الخ...عندما ينتهي عقده وتنتفي الحاجة إليه يفسخ عقده. أما المتفرّغ فلا أحد يستطيع فصله من عمله، إلا في حال ثبوت مخالفة تنظيمية عليه".

يرفض المصدر التصريح عن النسبة النهائية التي طالت الموازنة التشغيلية، ويختم حديثه بقوله: "كان الهدف أن نتخلى عن موقفنا الأساسي في قضايا رئيسية في المنطقة: القضيتان الفلسطينية واليمنية. ونحن نقول لهم: كما فشلتم في الحرب العسكرية، فشلتم في الحرب الاقتصادية ولن نغير مواقفنا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها