الثلاثاء 2019/04/23

آخر تحديث: 00:06 (بيروت)

واجب اللبنانيين تجاه سريلانكا

الثلاثاء 2019/04/23
واجب اللبنانيين تجاه سريلانكا
عبّر اللبنانيون عن اهتمام واسع تجاه مأساة سريلانكا (Getty)
increase حجم الخط decrease
"أنولا"، إمرأة كاثوليكية من سريلانكا. تعيش في لبنان منذ 30 عاماً تقريباً. تزوجت لبنانياً بيروتياً وترملت منذ سنوات قليلة، وبقيت وحيدة هنا. تعمل مساعدة منزلية حرة. تأتي إلى منزلنا مرة في الأسبوع منذ حوالى 23 سنة.

صباح الأحد كانت في مطبخنا، حين رنّ هاتفها: بدأت التفجيرات في أنحاء سريلانكا، في العاصمة كولومبو، الكنائس والفنادق: الضحايا بالعشرات. تتكلم مع قريبتها بنبرة أشبه بالصراخ الملتاع. بدأت بالبكاء والارتعاش. وبلهجتها الخاصة اختصرت ما حدث: "كان سريلانكا خربان بالحرب بعدين صارت حلوة.. هلّأ راح كل شي".

بعبارة واحدة قالت أنولا تاريخ بلدها. في مطلع الثمانينات بدأت تلك الحرب الإثنية - الطائفية بين التاميل والسنهال، ولم تنته إلا في العام 2009، مسببة الفقر والخراب وسوء التنمية والتخلف في كل مجالات الحياة. لكن في السنوات العشر الأخيرة، حققت سريلانكا قفزات اقتصادية مهمة، وانتعشت كواحدة من الوجهات السياحية العالمية، كما جذبت الكثير من الصناعات والاستثمارات بفضل رخص اليد العاملة. كانت التنمية السريعة وتحسن نوعية المعيشة وشبكة الخدمات المتطورة وتوسع البنية التحتية الجديدة، كفيلة بتجاوز آثار الحرب.

مسلمو سريلانكا أقلية (عشرة في المئة)، وكذلك المسيحيون (7- 8 في المئة)، في بلد تطغى عليه هوية أساسية: السنهالية البوذية (69 في المئة). أما التاميلية الهندوسية (حوالى 15 في المئة) فرغم كونها أقلية، إلا أنها تستمد قوتها من انتمائها عرقياً ودينياً إلى الهند، الجارة العملاقة لسريلانكا، كما من امتيازاتها التاريخية، كطبقة متعلمين وأصحاب ثروات وملكيات واسعة.

أنولا لم تتوقف عن العمل لحظة سماع الأخبار، رغم أني أعددت لها فنجان الاسبرسو المفضل عندها، ارتشفته سريعاً: "أنا بيخلص شغل ليروح الكنيسة.. أنت روح شوف الأخبار". لم تحترم مرة مهنتي كصحافي، هي التي كانت تردد ضاحكة عبارة: "أنت يعمل جريدة أنا بينظف إزاز فيها".

لم تتأخر أنولا باتهام "داعش" بما حدث في بلادها. بدا هذا مفهوماً وبديهياً. هكذا تفجيرات انتحارية متزامنة، وهكذا "أهداف" مدنية ودينية، تذكر سكان الأرض كلهم بنمط "أعمال" هذا التنظيم وشغفه اللامحدود بإيقاع الأذى والرعب بالمدنيين.

في لحظة صمت، انتبهت أن تاريخ سريلانكا مع الحرب الأهلية المديدة، فالسلم وإعادة الإعمار، فالوقوع في الاضطراب والإرهاب، والتقلب بين التفاؤل المفرط بالمستقبل المزدهر والتشاؤم الذي لا يُحتمل من خطر الانهيار أو تجدد الحرب والمذابح والعودة إلى الفقر والخوف.. هو عينه تاريخنا اللبناني. بل وكأنه تاريخ يطبع بلاد الأرض.

راحت أنولا تخبرني برعب أن "الفايسبوك" و"الواتس آب" انقطعا في سريلانكا. تلك هي قوة الإرهاب وغايته: إنهاء العالم بوصفه شبكة تواصل. انقطاع عن الزمن ونهاية الكلام. الكف عن الوجود واستبداله بالموت والصمت.

رحت أجمع الأخبار اللبنانية المواسية لفاجعة سريلانكا. رؤساء ووزراء ونواب ورجال دين وأحزاب.. ينددون بالمقتلة، بالفظاعة. بدا "التويتر" اللبناني كله مشغول بالتضامن مع سريلانكا في يوم عيد الفصح، في لحظة القداديس المهيبة والكنائس العامرة بمؤمنيها. مشاعر حقيقية بالأسى والاستنكار، وإن خالط بعضها شبهة "الإسقاط" المحلي (السياسي والطائفي) الذي يضمر من ناحية استحضاراً للهواجس "المسيحية"، ومن ناحية أخرى تبرؤاً مسبقاً لـ"الإسلام".

كان مدهشاً هذا الفائض من التعاطف مع سريلانكا.. في بلد سجله مع سريلانكييه يدعو للخجل. هل هو تعويض عن شعور بالذنب، انبثق فجأة، حين انتبه اللبنانيون أن لا فرق كبير بين حال بلدهم وحال ذاك البلد؟ أم أن المصيبة تجمع وحسب؟
دخلت مأساة سريلانكا إلى بيوت اللبنانيين حرفياً، لا مجازياً. ففي معظمها ثمة عاملة منزلية من هناك. ولذا، كان الشعور (الغريب!) بالقرب والملاصقة. وكأن ما أصاب سريلانكا ليس "أجنبياً" تماماً، طالما أن بعض أهلها يعيشون معنا، في بيوتنا.

في كل الأحوال، استثنائية الاهتمام اللبناني الحقيقي بمأساة سريلانكا، تشير إلى الصلة التي نادراً ما يعيها اللبنانيون مع أهل ذاك البلد، على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، ورسوخ الحضور السريلانكي في بيوتنا وفي فضائنا العام، كجالية دائمة الحضور. إن أجيالاً من اللبنانيين تربوا في أحضان "سريلانكيتهم". وقد حان وقت الاعتراف بهذه الجالية كجزء من نسيجنا السكاني المتنوع، ومن دون أي عوائق عنصرية أو تمييزية، حقوقياً وإنسانياً.. فحتى مطبخنا "اللبناني" دخلت إليه النكهة السريلانكية.  

نأمل أن لا يتبدد هذا التعاطف، وأن ينمو أكثر هذا الحس الإنساني المشترك، فنراه في حياة السريلانكيين عندنا موفوري الكرامة، كاملي الحقوق في المعاشرة والمعاملة. هذا أقل "الإيمان".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها