حكي جردي: مَجلسُ السَفْسَطَة

عقد مجلس الوزراء اللبناني جلسة قبل أيام، كان على جدول أعمالها بندٌ وحيدٌ هو تبادل تهم الخيانة والتعطيل بين أعضائه، خرج في نهايتها وزير الإعلام رمزي جريج ليبشّر اللبنانيين أن أصحاب "المعالي" اجتمعوا على مدى ثلاث ساعات وخرجوا صِفْرَ اليدين: المجلس الذي تحددت مهمته في الدستور باتخاذ القرارات أنهى اجتماعه دون اتخاذ أي منها، هذه الواقعة لو حدثت في بلد متحضر لاستقال وزراؤه واعتذروا علنا من الذين أولوهم الثقة، أما عندنا فالغنم لا يهتم إلا بموعد سَوْقِهِ إلى المعلف.


**  **  **  **
أبصرت حكومة الرئيس تمام سلام النور بعد عشرة أشهر ونيف من تكليفه بتشكيلها، حصل ذلك بإرادة خارجية تلاقت مصالحها لأسباب عدة.
ذلك أكده الوزير نهاد المشنوق عندما خاطب وزير الخارجية باسيل قبل نهاية الجلسة بالأمس "لو كان التمثيل بالأحجام لكان أغلب المسؤولين غير موجودين، أنت تعلم ذلك وأنا أعلم.. ليست اسماؤنا التي أحضرتنا هنا، بل لأن من هو أكبر منّا قَبِلَ بنا، الذين تفاهموا على الحكومة.. لنفعل القليل من الأمور أمام الناس، او لنستقل".
وطبعا لم يفعل المجلس شيئا للناس خلال هذه الجلسة التي خرج بنهايتها وزير الداخلية دون أن يبادر للاستقالة تماشيا مع كلامه.


**  **  **  **
يعرف ميشال عون أن عدة تيارات سياسية لبنانية ترفض وصوله إلى القصر الجمهوري، في مقدمة هؤلاء حركة أمل متمثلة برئيسها نبيه بري، بالرغم من ذلك يصر على توجيه سهامه إلى تيار المستقبل فقط ولا يتورع أنصاره عن وضعه في منزلة داعش: هذه السياسات ليس لها إلا هدف وحيد هو إضعاف تيار المستقبل المعتدل سنيا على حساب الجماعات الأصولية، ذلك ليس بريء أبدا، الخوف أنه يحصل في لحظة تسابق بين السعودية وإيران على الفوز بأكبر أوراق إقليمية ممكنة وأن يكون ذلك مقدمة لشل الحكومة أو تخريبها تمهيدا لاحداث انقلاب عسكري أو اقتصادي أو اجتماعي يطيح بالتوازن الهش القائم حاليا.


**  **  **  **
في اللغة، السفسطة هي الخداع والتضليل.
حسنا فعل وزير الاتصالات بطرس حرب عندما أعلن اعتكافه عن حضور جلسات مجلس الوزراء وتفرغه لتصريف أعمال وزارته، رهن عودته إليها بتأدية المجلس واجبه كسلطة تنفيذية مهمتها حل مشاكل الناس وفي مقدمتها النفايات، وأكد أن ما يجري هناك ليس أكثر من سفسطة سياسية يقوم بها الوزراء وأنه لن يعود إلا بعد تأكده من انصراف هؤلاء إلى شؤون اللبنانيين ومشاكل عيشهم: يكاد أن يكون ابن تنورين آخر رجال السياسة المحترمين في لبنان، هو الذي عارض يوما أفعال النظام السوري في لبنان، وكان دائما ضد سياسات الرئيس الراحل رفيق الحريري الاقتصادية، وميّز نفسه عن 14 آذار في أكثر من موقف بالرغم من كونه أحد أعمدتها، وهو الذي رفض الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية بعد الفراغ الذي حدث عقب انقضاء فترة تمديد الرئيس الأسبق إميل لحود واضعا ذلك بعهدة البطريرك صفير الذي زكّاه عند الرئيسين سعد الحريري ونبيه بري ومشترطاً الحصول على أكثر من أصوات فريق 14 آذار التي كانت كافية في ذلك الحين لإيصاله.


**  **  **  **
عموما، المستفيد الوحيد من هذه الجلسة هم وسائل الإعلام السياسية لاسيما منها المرئية والمسموعة  التي تجيد في مثل هذه المناسبات ملء هوائها التافه والسخيف بثرثرات فارغة لا تمتّ إلى المعنى بصلة، الأجدر بالقائمين على سياساتها أن يطلبوا من العاملين عندهم تحضير ونشر ملفات فساد هؤلاء الوزراء الذين ألبسوا وجوهَهم -لحظة عبورهم عتبة السياسة- أقنعة الوقاحة والعهر حتى صارت جزءاً لا يتجزّأ من جلودهم الميتة التي غاب عنها الحياء والخجل.


**  **  **  **
بالرغم من الملاحظات الأساسية حول تبعيتها للسياسيين في الكثير من أمورها المفصلية، تبقى مؤسسة الجيش اللبناني في هذه الظروف الصعبة هي صمام الأمان الأساسي للمحافظة على هذا الكيان اللبناني الهش، وبالتالي فإن كل محاولة سياسية لزعزعة ما تبقى من ثقة اللبنانيين بها هي دفع للبلاد باتجاه المجهول.