الجمعة 2014/08/15

آخر تحديث: 09:22 (بيروت)

حسب الخطة

الجمعة 2014/08/15
increase حجم الخط decrease

يعتبر النظام الحاكم في مصر، نفسه، وريث تظاهرات 30 يونيو، مستعيناً بهذه اللحظة الجماهرية لإضفاء بعض الشرعية على انقلابه العسكري وإرساء فكرة الانقطاع مع طبيعة الأنظمة السابقة على الثورة. بهذا المعنى، قامت الرواية الرسمية المصرية على فكرة الإنقطاع مع نظامي مبارك ومرسي اللذين سبقاها، لتدمج بين قمع الأول وجذور الثاني النابعة من ثورة شعبية. وقد نجحت تلك المنظومة الحاكمة ودعايتها الرخيصة في تكريس نمط من القمع يختلف عما سبقه من ممارسات، وهو قمع بات لا يواجه اعتراضات تذكر، هذا إنّ لم يكن مقبولاً. إنّه قمع أنظمة ما بعد فشل الثورات العربية.

قد يكون هذا النوع من القمع عائداً إلى نجاح النظام المصري في اقتلاع أي معارضة فعلية له ولرئيسه الجديد، أو إلى حالة الخوف والتعب التي تلت ثورة 25 يناير ومرحلة حكم الإخوان. بيد أنّ هذا الطابع للنظام يطرح تأريخاً جديداً لحكمه، تشكّل فيه مجزرة "رابعة العدوية" الحدث المؤسس له وتلخيصاً مكثّفًا لطرق حكمه. وقد وصفت منظمة "هيومن رايتس واتش" هذه المجزرة، التي أدّت إلى مقتل أكثر من 800 معتصم، كـ"واحدة من كبرى وقائع قتل المتظاهرين في العالم في يوم واحد، في التاريخ الحديث"، كما جاء في تقريرها الأخير تحت عنوان "حسب الخطة: مذبحة رابعة والقتل الجماعي للمتظاهرين في مصر".

وبينما كان الرئيس السيسي يتشاور، ونظيره الروسي بوتين، في زيادة التبادل الزراعي بين بلديهما، أصدرت المنظمة الدولية تقريرها، وهو نتيجة تحقيق دام سنة، في أحداث تموز/يوليو وآب/اغسطس 2013، واستخلصت فيه أنّ ما حصل يرقى "على الأرجح إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية". ويعيد التقرير في صفحاته الـ142 صياغة الرواية المؤسسة لنظام السيسي، ويسلّط الضوء على جذوره الدموية، ليضع الجميع أمام مسؤولياتهم الأخلاقية: ثمن الاستقرار هو جريمة ضد الإنسانية. 

غير أنّ التقرير يرصد استمرار تلك الممارسات في الحاضر، حيث يبدو أنّ السكوت على أحداث "رابعة العدوية" سمح بتوسيع رقعة القمع. فرغم أنّ هذه الحادثة شكّلت أضخم عملية قتل "في يوم واحد"، فإنها لم تكن الوحيدة، على ما أتى في إحصاء التقرير لعمليات فض الإعتصامات والتظاهرات. وإلى جانب القتل، تمّ اعتقال أكثر من 22 ألف شخص، وهذا حسب الأرقام الرسمية المصرية، أي أنه مخفف على الأرجح، وقد تعرّض العديد من هؤلاء لمحاكمات تعسفية وصدرت بحقهم أحكام بالإعدام بالجملة. ولم ينحصر قمع النظام في جماعة الإخوان المسلمين، التي تمّت أبلستها من قبل الإعلام المصري، بل طاول عدداً من الناشطين السياسيين أو المدافعين عن حقوق الإنسان، مثل ماهينور المصري ويارا سلام وأحمد دومة وعلاء عبد الفتاح وأحمد ماهر ومحمد عادل وغيرهم، الذين تمّ سجنهم، وغالبا مع عقوبات تفوق ما كانت تفرضه عليهم الأنظمة السابقة. وهذا فضلاً عن منع التظاهر وقمع الإعلام وإغلاق الجمعيات المدنية.

كل هذا جاء "حسب الخطة" التي لم تكن ممكنة لو لم تمرّ مجزرة "رابعة" مرور الكرام. فحتى اليوم، لم يجر أي تحقيق في أحداث ذاك اليوم الدموي، ولم يتّم توقيف أي مسؤول، أمني أو مدني، على خلفية ما جرى. بل العكس ما حدث، مع توزيع وزارة الداخلية بعد أيام على المجزرة مكافأة على الضباط المشاركين في فض النشاطات، على ما روى تقرير "هيومن رايتس واتش". ففرضية التقرير، أي وجود خطة منهجية وراء فض اعتصام "رابعة"، تنفي رواية النظام المصري آنذاك بأنّ المجزرة فُرضت عليه. وحسب تحقيق المنظمة الدولية، قامت قوات الجيش والشرطة "على نحو عمدي وممنهج، باستخدام القوة المميتة والمفرطة في عمليات حفظ الأمن"، ما يتناقض ومقولة الدفاع عن النفس، حيث اعتبر التقرير أنّ عددا قليلا من المتظاهرين استعمل الأسلحة، "وهو ما لا يبرر الاعتداءات المميتة، غير المتناسبة، التي تمت عن سبق إصرار وترصد، على متظاهرين سلميين في غالبيتهم الساحقة".

وتذهب "هيومن رايتس واتش" أبعد في إظهارها الطابع المدبّر لمجزرة "رابعة"، حيث تشير إلى معرفة عدد من المسؤولين آنذاك بأنّ من شأن عملية الفض أنّ تؤدي إلى عدد كبير من الضحايا من بين المعتصمين والمتظاهرين. وسمّى التقرير مَن اعتبرهم مسؤولين عن مجزرة "رابعة"، وهم وزير الداخلية محمد إبراهيم، ووزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي، وهو مَن طالب الشعب المصري منحه "تفويضاً وتكليفاً بمواجهة العنف والإرهاب المحتمل"، ورئيس وقائد القوات الخاصة في عملية "رابعة" مدحت المنشاوي، بالإضافة إلى رئيس جهاز المخابرات العامة، محمد فريد التهامي، وقادة عسكريين وأمنيين آخرين. أو بكلام آخر، أركان النظام الجديد.

وختمت "هيومن رايتس ووتش" بتوصيات تتراوح ما بين دعوة الدول الأعضاء في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى إنشاء لجنة تقصي حقائق ومطالبة دول بتعليق المعونة العسكرية لمصر، وصولاً إلى رزمة من التعديلات الموجّهة إلى الدولة المصرية. وعلى الأرجح، لن يتحقق أي من تلك التوصيات لعدم وجود الشروط السياسية اللازمة. غير أنّ أهمية التقرير لم تكمن في توصياته، بل في دحضه رواية النظام وتثبيته مقولة أنّ النظام الجديد بات نتيجة "خطة"، أحد أهم مكوناتها مجزرة رابعة العدوية.

سوف يُقابل هذا التقرير على الأرجح بصمت وتجاهل، وستُحاك من حوله أفظع نظريات المؤامرة كالتي اعتدنا عليها من بعض الإعلام المصري. غيرّ أنّ هناك 817 شهيداً سيظلون يبدون كالنشاز في معزوفة النظام الجديد، وكالمدخل الأساسي لأي مشروع لمعارضة نظام ارتكب "على الأرجح".. "جريمة ضد الإنسانية"، وذلك "حسب خطة".

increase حجم الخط decrease