بوتين وريث القياصرة والبلاشفة

سأل كاهن كنيسة روسية عجوزاً مؤمنة عن سبب تراجع أعداد المؤمنين ـــ زوار الكنيسة، فأجابته العجوز بأن المؤمنين ما عادوا يخشون جهنم بعد السلطة الحالية. يعيبون على منتقدي روسيا بوتين الحشرية في غير مكانها والجحود بفضل روسيا. أصحاب تهمة الحشرية يرون أن بلداننا تفيض بانظمة القمع والعسس، والذهاب بعيداً ـــ هروب من الواقع. يتفهم هؤلاء تركيز الغرب على إنتقاد روسيا، إذ أنه ينطلق في إنتقاده من واقع نقيض لما هو قائم في روسيا من إرهاب الرأي الآخر وتضييق الخناق على الحريات والصحافة المستقلة. فالغرب يرى في روسيا تهديداً وجوديا لكل قيمه الحديثة التي تسوق روسيا لنقيضها المحافظ، وهو في حرب قيم تحولت في أوكرانيا إلى حرب دموية تستنزف موارده وتثير النقاش حول حجم الإنفاق عليها. ويتساءل أصحاب تهمة الحشرية عن القيم التي تهددها روسيا في بلداننا، وهل تشكل خطراً عليها، أم أنها تعززها وتقدم لها مسوغات بقائها على قيد الحياة، على رغم عدائها للحياة وأسباب استمراريتها. 

أصحاب تهمة الجحود بفضل روسيا يسوقون الكثير من الحجج الداعمة لرؤيتهم، من تخريج آلاف الإختصاصيين في كافة المجالات إلى الوقوف بجانب قضايانا التي كان لروسيا، خاصة البلشفية، دور بارز في إثارة الكثير منها. وإذ يعدد هؤلاء المحطات التي تضامنت فيها روسيا مع قضايانا ـــ من عدوان  السويس إلى حرب الأيام الخمسة وحرب العبور أو يوم الغفران ــــ يتحاشون التوقف عند دور الإتحاد السوفياتي النشط في قرار تقسيم فلسطين العام 1947 الذي ما زالوا يعتبرونه نكبنهم الأولى، ويصرون حالياً على تطبيقه بحذافيره.

تهمة الجحود تفترض بمنتقدي روسيا من المتخرجين من معاهدها وجامعاتها أن يتذكروا فضلها عليهم، وأن يلتزموا الصمت حيال ما ارتكبته وما زالت من قتل ودمار في سوريا وتأجيج العداء للغرب في المنطقة. أصحاب التهمة هذه لا يرون غضاضة في إنتقاد متخرجي الغرب لما تأتيه "الإمبريالية الغربية" من مويقات، ويرون في الإنتقاد هذا حقاً طبيعياً يفرضه ما تلقاه المتخرجون من قيم تحتم عليهم إنتقاد "الخطأ" أياً كان مرتكبه. ما تلقاه متخرجو روسيا يحرم إنتقاد السلطة القائمة فيها، ويحذر من إنتقاد السلطة في بلد المتخرج مهما كانت طبيعتها. يُلقن المتخرج الخنوع لا الإنتقاد، ويجري حثه على الإنتفاض ضد الغرب وقيمه الخليعة. ولعل النكتة التي كانت شائعة ايام البلشفية تصور هذا الواقع وتقول أن أميركياً وروسياً كانا يتفاخران بفضائل الأنظمة السياسية السائدة في البلدين. قال الأميركي: بوسعك أن تقف أمام البيت الأبيض وتشتم الرئيس الأميركي قدر ما تشاء. رد عليه الروسي بالقول: وما الغريب في الأمر، بوسعك أن تقف أمام ضريح لينين في الساحة الحمراء وتشتم ... الرئيس الأميركي قدر ما تشاء. 

أصحاب تهمة الجحود يجيزون التحدث عن روسيا، لكن "خارج السياسة". بوسعك التحدث عن تاريخ طموح روسيا للوصول إلى المياه الدافئة، وعن "ضم"  أراضي عشرات الشعوب إلى الإمبراطورية الروسية. بوسعك التحدث عن "ثورة أوكتوبر"، لكن ليس عن "ثورة فبراير" الديموقراطية الروسية وانقلاب البلاشفة عليها بعد أشهر في تشرين الأول/اوكتوبر العام 1917. يجيزون الحديث عن "إنجازات "ثورة أوكتوبر"، لكن ليس عن الحرب الأهلية التي خلفتها وأهوال المجازر والمجاعات التي ذهب ضحيتها الملايين من الروس والشعوب الأخرى المنضوية في الإمبراطورية البلشفية. يجيزون التحدث عن "الحرب الوطنية العظمى"، كما يسمي البلاشفة وورثتهم الحاليون الحرب العالمية الثانية، لكن ليس عن ضحايا الإرهاب البلشفي خلالها، والتي عادلت، إن لم تكن تجاوزت ضحايا الغزو النازي التي لم يعلن حجمها رسمياً حتى الآن بعد مرور حوالي 75 عاماً على انتهائها. يجيزون التحدث عن روسيا في سوريا، لكن ليس عن شراكتها مع إيران في قتل مئات آلاف الضحايا وتدمير المدن السورية وتهجير أكثر من نصف السوريين إلى الجوار والغرب.

ورثت روسيا بوتين عن البلاشفة الأدوات التي كانوا يستخدموها في أسوأ مراحل إرهابهم الستاليني في ثلاثينات القرن الماضي. لكن بدلاً من تهمة "عدو الشعب" التي كانت تفضي إلى الموت المحتم أو معسكرات الغولاغ، اعتمدت روسيا بوتين تهمة "عميل أجنبي" التي تقررها وزارة العدل وتقضي بالتشهير وحرمان "العميل" من شغل أي وظيفة. وفي حال إصرار العميل الأجنبي على "عمالته" تتحول الصفة إلى تهمة الإساءة إلى سمعة القوات المسلحة الروسية في حربها على العدو الأوكراني "النازي الجديد"، وتهمة الدعوة إلى التطرف والإرهاب. لا تفضي هذه التهم إلى الإعدام الذي يجري الحديث عن إقراره مجدداً في روسيا بعد العمل الإرهابي الأخير، لكنها تودي بالمتهم إلى عقوبات بالسجن في معسكرات الإعتقال النائية لمدد تصل إلى السجن مدى الحياة أو ما دونها بقليل، كما كان زعيم المعارضة المغدور ألكسي نافالني يقضي عقوبة 19 سنة في معتقله القطبي. 

تهمة "عدو الشعب" كانت تودي بالموصوم بها إلى الموت أو معسكرات الغولاغ، ويحظر على محيطه وأصدقائه  ذكر إسمه، ويختفي أي أثر له. الشخصية الثانية بعد ستالين في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي لافرنتي بيريا، والذي تم تحميله المسؤولية عن معظم جرائم الإرهاب الستاليني، اختفى ذكره تماماً في كتب التاريخ السوفياتية بعد لإعدامه العام 1953، ونفيت أسرته إلى الأورال وألزمت بحمل اسم عائلة ثانية لا تمت بصلة لعائلة بيريا. الموصوم بوصمة "عميل أجنبي"  يتعرض في روسيا بوتين للأسلوب البلشفي عينه. الكاتبة الروسية الحائزة على أكثر من جائزة أدبية أوروبية Lyudmila Ulitskaya، ادرجت مطلع الشهر المنصرم على قائمة "عميل أجنبي". وأشار موقع الخدمة الروسية في دويتشه فيله DW في 2 الشهر المنصرم إلى أن وزارة العدل الروسية أدرجت الكاتبة على قائمة "عميل أجنبي" بعد أن نشرت مقابلة وتعليقات على مواقع إعلام أجنبية و"عميلة أجنبية" أعلنت فيها وقوفها ضد "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، وقامت بالدعاية لجماعات المثليين جنسياً، "وفوق كل ذلك تقيم في ألمانيا". 

وعلى الطريقة البلشفية عينها، سبق أن حظرت السلطات الروسية نشر أعمال Ulitskaya، وأزالتها عن رفوف المكتبات ومتاجر الكتب. وكان موقع الخدمة الروسية في Forbes الأميركية قد أشار مطلع شباط/فبراير المنصرم إلى أن دار النشر الروسية AST التي تتولى نشر أعمال الكاتبة قد توقفت عن دفع المستحقات المالية للكاتبة. وأشار الموقع إلى شريط فيديو أشارت فيه الكاتبة إلى أنها تحول إلى أوكرانيا ما تتلقاه من مداخيل بيع كتبها في روسيا. وإثر ذلك أوقفت دار النشر المدفوعات المستحقة للكاتبة "إلى أن يتم إستجلاء الوضع، وتفصح الكاتبة عن شروحاتها المحتملة". 

المجمع الإعلامي الروسي الكبير RBC أشار في 9 كانون الثاني/يناير المنصرم إلى الرئيس بوتين أصدر تعليماته لتخصيص منحة مالية لمؤسسة الدولة الإتحادية لإدارة أملاك روسيا في الخارج للبحث عن الممتلكات العقارية في الخارج العائدة لروسيا الإتحادية والإمبراطورية الروسية والإتحاد السوفياتي السابق. 

موقع Meduza الروسي المعارض نشر في 17 تموز/يوليو السنة الماضية نصاً بعنوان "كيف أقنع بوتين العالم بأن روسيا وريثة، ليس الإتحاد السوفياتي فحسب، بل والإمبراطورية الروسية أيضاً. وبفضل ذلك استولى على عقارات وعزز نفوذه في الخارج". قال الموقع بأن السلطات الروسية غالباً ما تدعي الاستمرارية التاريخية بين روسيا والإمبراطورية الروسية. ويجري هذا الإدعاء  في سياق الأحاديث عن التاريخ المتواصل منذ ألف عام للدولة الروسية و"العالم الروسي".