السبت 2024/03/30

آخر تحديث: 07:19 (بيروت)

نقاش في بيروت عن روسيا والشرق الأوسط

السبت 2024/03/30
نقاش في بيروت عن روسيا والشرق الأوسط
increase حجم الخط decrease

منذ أيام دعا أحد مراكز البحث الرصينة في بيروت لنقاش"روسيا في الشرق الأوسط". بعد مرور  أكثر من 9 سنوات على عودة روسيا إلى الشرق الأوسط حرباً على إنتفاضة الشعب السوري ضد الطاغية، بقيت ندوات نقاش هذه العودة نادرة مع كثرة منابر النقاش حولنا، وتكاد مناقشتها  تقتصر على مواقع الإعلام اليومية.  

ما ارتكبته روسيا في سوريا من قتل وتدمير، يجعل الحديث عن ضرورة نقاش عودتها إلى الشرق الأوسط بديهة بسيطة لا تحتمل الجدال حولها. الكارثة السورية المتواصلة منذ أكثر من 13 عاماً، لم يسلم من مآسيها أحد في المنطقة، وتواصل جروحها تقيحاً في أجساد كل الكيانات المحيطة بسوريا والأبعد منها غرباً. ونقاش الوجود الروسي في الشرق الأوسط لا يتحمل العموميات التي تنطوي على تمويه التفاصيل الدموية الصادمة التي تترافق مع هذا الوجود. التفاصيل تتضمن بالضرورة أخذ مصالح روسيا الفعلية بالإعتبار، لكنها لا تتحمل تضخيمها وأدلجتها بالقول أن روسيا اضطرتها هذه المصالح للعودة إلى الشرق الأوسط ودخوله حرباً. 

مقاربة الموضوع الروسي لا يزال يطغى عليها في كثير من الأحيان نوعان من الحنين:  الحنين إلى "الزمن الجميل" لدى المتخرجين من معاهد الإتحاد السوفياتي وجامعاته، والحنين إلى "زمن العظمة" لدى الشيوعيين وسواهم من أصحاب السوابق اليسارية الذين كانوا يتباهون ب"عظمة" الإتحاد السوفياتي بمواجهة الغطرسة الغربية. والمقاربة الغربية للموضوع الروسي، سواء في الشرق الأوسط أو خارجه، تبقى ملامح الموقف المسبق بارزة في الخلفية مهما تحلت بالموضوعية. 

براغماتية النظام الروسي الراهن الذي يصفه المعارضون بالمافيوي، تخطت جميع هذه المقاربات، وأتاحت له توظيف إرث الأمبراطورية الروسية وتركة المرحلة البلشفية في عودته إلى الشرق الأوسط. فقد أعاد إحياء "الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية" التي كان قد دفنها البلاشفة عملياً. وكان يترأسها لدى تأسيسها أواخر القرن التاسع عشر شقيق القيصر أو أحد أفراد الأسرة المالكة، وتتولى إدارة الشؤون الدينية والعلاقات الثقافية مع الأراضي المقدسة وما يعرف الآن بسوريا ولبنان. يتولى رئاستها الآن سيرغي ستيباشين، رئيس الوزراء ومسؤول الأجهزة الأمنية الأسبق، وأحد المرشحين لتولي منصب الرئاسة الروسية بعد يلتسين. لكن حظوظه الرئاسية كانت صفراً لوقوفه ضد محاولة إنقلاب الأجهزة  على سلطة البريسترويكا العام 1991، وتولى بوتين العام 2000 رئاسة نظام الأجهزة المستمر منذ حوالي ربع قرن.

البلاشفة، وبعد أن ثبتوا سلطتهم وأقاموا الإتحاد السوفياتي العام 1922، سارعوا إلى إنشاء الأحزاب الشيوعية العربية التابعة لهم، وتبنوا فكرة "حركة التحرر الوطني" من الإستعمار وشجعوا كل الحركات التي كانت  ناشطة ضد فرنسا وبريطانيا في المنطقة. الإنتصار على النازية العام 1945 عزز موقع البلاشفة والأحزاب الشيوعية في البلدان العربية، وطرحوا شعارات غريبة من نوع "طريق التطور اللارأسمالي" و"الأنظمة التقدمية الوطنية". كان البلاشفة، من جهة، يبررون بهذه الشعارات تحالفهم مع الأنظمة القمعية العربية التي كانت تضطهد الشيوعيين وتلاحقهم. ومن جهة أخرى، كانوا يحرجون الشيوعيين بمقولة "أنظمة وطنية تقدمية"، ويلزمونهم السكوت عنها أو حتى الإنخراط في خدمتها ـــ مصر وسوريا عبد الناصر وعراق عبد الكريم قاسم.

ساهمت المقاربة البلشفية هذه بشعاراتها في تأجيج المشاعر المعادية للغرب في المنطقة، ولعبت دوراً بارزاً في الحؤول دون بلورة معادلة تجمع بين السعي للإستقلال وتقبل قيم التقدم الغربية. فالغرب ليس خياراً، بل حاجة تحتمها ضرورة الإلتحاق بمسار التطور العلمي والإقتصادي الإجتماعي العالمي. وقدمت نموذجاً عن هذه المعادلة الصعبة تجربة الإستقلال عن فرنسا في تونس، وإلى حد ما في فيتنام بعد تحررها من الإحتلال الأميركي. شيوعية فيتنام لم تحل دون إقامة أفضل العلاقات مع الولايات المتحدة بعد التحرر،  وعقلانية التونسيين جعلتهم يحافظون على القيم الغربية واللغة الفرنسية بعد إستقلالهم عن فرنسا(الفرنسيون سموا بإسم بورقيبة أحد الشوارع المجاورة لبرج إيفل في باريس). 

روسيا اليوم تستثمر جيداً في التركة البلشفية، وتغذي مشاعر العداء للغرب في المنطقة. لكنها لم تعد تسعى لتكتيل هذه الدول في منظومة بلدان "حركة التحرر الوطني"، بل في "بلدان الجنوب" المواجه للغرب. وهي دخلت الشرق الاوسط حرباً على سعي الشعوب للتخلص من الطغاة. وتدعم الأنظمة التسلطية، لكن هذه المرة ليس بصفتها "أنظمة تقدمية وطنية"، بل بصفتها أنظمة  تتمتع بشرعية "الإنتخابات" وتمثل السيادة الوطنية. 

نكرر ما أعلنه النظام الروسي مراراً خلال كل هذه السنوات  بشكل مباشر إو غير مباشر، من أنه استغل المأساة السورية لجعل هذا البلد منصة إنطلاق إلى الشرق الأوسط برمته، بل إلى إفريقيا أيضاً. والنظام الروسي لا يسعى إلى إطفاء الحرائق المشتعلة، سواء في الشرق الوسط أو خارجه، بل يعمل على إضرام نيرانها حيث لا تتوفر العوامل الذاتية لاستمرار الحريق، إثباتاً لمقولته بانهيار النظام العالمي أحادي القطب. 

الخبير  الروسي الفذ في شؤون الشرق الأوسط Nikita Cmagin نشر في مطلع الشهر الأخير من السنة الماضية على موقع Carnegie موسكو الذي يصدر في برلين تحت إسم Politika  Carnegie نصاُ أشرنا إليه سابقاً، ويناقش ما تتوقعه روسيا من الحرب في غزة. 

رأى الخبير أن التصعيد الراهن بين إسرائيل وقطاع غزة تحول إلى أزمة"مثالية" بالنسبة لروسيا. لم تشترك هي في خلق هذا التصعيد ولا تبذل جهداً يذكر لإبقائه مشتعلاً، لكنها تحصل تلقائياُ على جملة من المنافع. ما يجري في الشرق الأوسط لا يمنح روسيا فقط الأمل بتغيير مسار الحرب ضد أوكرانيا لصالحها، بل يرسخ أيضاً قناعة الكرملين بصحة رهانه على انهيار نظام العلاقات الدولية الغربي. 

قال الخبير بأن روسيا بقيت لسنوات عديدة تقدم الدعم لمختلف الراديكاليين والسياسيين المناوئين للأنظمة الأوروبية القائمة، من Jobbik المجري إلى Marine Le Pen الفرنسية، من أجل شق صفوف الغرب وزعزعة إستقراره، لكن النتائج كانت جد متواضعة. إلى أن جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ووضع نهاية للخلافات الداخلية في الغرب، ورص صفوفه مجدداً. 

لكن انفجار الدورة الجديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي جدد الإنقسامات في الغرب بحدة أكبر. والسياسة الأميركية الداعمة لإسرائيل تُفقد الحجج الغربية في دعم أوكرانيا مشروعيتها، خاصة وسط بلدان الشرق الأوسط. فمحاولات اعتماد العامل الإخلاقي في رفض الإعتراف بالغزو الروسي لأوكرانيا أصبحت تبدو بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط حججاً واهية. يمكن النقاش مطولاً حول إختلاف أسباب الحرب في أوكرانيا وغزة، لكن الإستنتاج بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط يبقى واحداً: الولايات المتحدة تدين قتل المدنيين الأوكران من قبل روسيا وتسكت عن قتل المدنيين من قبل حليفتها إسرائيل. 

يضيف الخبير أن النظرة الواقعية على ما يجري في العالم تهيمن في الكرملين  منذ زمن بعيد، حيث الأخلاق والأيديولوجيا لا تعني شيئاً، وما يجري في العالم تقف وراءه منافسة شديدة بين دول مختلفة المصالح. في إطار هذه السياسة ليس من سيناريو أفضل من استمرار الصراع في الشرق الأوسط الذي يدمر كل إستراتيجية الغرب حيال روسيا. وليس على روسيا أن تبذل أي جهد، فالصراع الفلسطيني الإسرائيلي شديد العمق، والعملية البرية الإسرائيلية من المستبعد أن تنتهي بسرعة. وحتى بعد إنتهائها ستبقى معلقة أسئلة كثيرة حول آفاق تسوية هذا الصراع.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها