الإثنين 2022/09/26

آخر تحديث: 09:04 (بيروت)

الخداع المؤسس لمذبحة طرابلس

الإثنين 2022/09/26
increase حجم الخط decrease

قبل أكثر من أسبوع على كارثة غرق مركب طرابلس، كان موعد حفل زفاف ابنة أحد الزعماء السياسيين بالبلاد من نجل أبرز أباطرة الاعلام اللبناني. على وسائل التواصل، علّق المغردون على فيديو الزفاف، بالإشادة بحكمة الزعيم وثقافته وقدرته الخارقة على فهم الأحداث وحماية الطائفة، والتعالي فوق الخلافات والاختلافات الطائفية وغيرها من الأساطير.

وهذه الأساطير هي كقالب الحلوى في الزفاف، تُبنى على طبقات، من أعلاها صغيرة بارزة مع زينة ظاهرة، وأسفلها كبير وخفي كقاعدة اسمنتية صُممت كي لا يلتفت اليها أحد. أعلاها إعلامي البلاط الذي ينفخ بأبواق الزعماء ويصنع أساطيرهم، ذاك عبقري الطائفة والكريم على أهلها، وذلك ساحر بأرانب يسحبها من كمه أو حرّيف في السياسة، أو قوي يحمي حقوق الطائفة، أو قائداً استراتيجياً استعاد مجد الأمة.

هؤلاء الاعلاميون أساسيون في صناعة صورة الزعيم في مواجهة خصمه المفترض، ومن ثم في النفخ بأبواق الصراع بينهم، وإنتاج السياسة اللبنانية بوصفها لعبة بين زعماء يجهد كل منهم لانتصار طائفته. ولهم طبعاً نصيب معتبر من محفظة الأموال والمناسبات الاجتماعية ولقاءات البلاط وحفلاته.

القاعدة الأهم لكل هؤلاء، والتي لا يستوي القالب من دونها، هي مجموعة المتعهدين ورجال الأعمال والمصرفيين من طبقة المنتفعين. هذه الأحجار الرئيسية للنظام السياسي اللبناني، وعبرها تمر الاحتكارات والصفقات وعمليات الهدر والفساد في اقتصاد ريعي مبني على الاستيراد، لا الإنتاج، ووفقاً لقاعدة المحاصصة بين مجموعة زعماء طوائف.

هذه القاعدة المرتبطة بطبقة النخبة السياسية، غير قابلة للاختراق من أدناه، ولا ارتقاء اجتماعي يُذكر، أي أن نسبة ضئيلة جداً من الفقراء تتمكن من الانتقال الى طبقة اجتماعية أعلى عبر فرص يُوفرها الاقتصاد. اقتصادنا مُوصد بقفل ثقيل، وهناك من ابتلع المفتاح عن قصد. إن وُلدت فقيراً في طرابلس أو في أي مكان آخر من لبنان، ستموت كذلك، مع تسجيل استثناءات لا ترقى لأن تكون حالة، لكن تتلقفها الأبواق الإعلامية على سبيل الدعاية. هي عملية نهب منظمة، لكن مع شاشة تعرض فيلماً حماسياً من عالم آخر، أو كحلبة مصارعة مُسلية لامبراطور روماني فاسد. 

على هذا الأساس، يُسجل لبنان أعلى نسب عدم مساواة بين الفقراء والأغنياء في العالم، إذ تملك الغالبية الفقيرة، وهي أكثر من نصف السكان عشرة في المئة من الثروة الوطنية، مقابل 25% يملكها أثرى 1٪ في البلاد، وهي نسبة قليلة تُمثل غالباً طبقة المحظيين من سياسيين وزبانيتهم في عالم المال والأعمال والإعلام. علماً أن هذه أرقام سُجلت في دراسة لليديا أسود قبل الأزمة الحالية، وتفاقمت الآن مع فوارق العملة، سيما أن طبقة المحظيين من رجال أعمال وسياسيين هرّبت أموالها للخارج بعد الأزمة، وباتت الآن على مسافة سنوات ضوئية من الغالبية الساحقة للبنانيين. كيف يكون حال رجل الأعمال المحظي وقد انخفض أجر العامل(ة) لديه عشر مرات، وصار يملك قدرة أكبر على مفاوضته على لقمة عيشه؟

هؤلاء هم ضحايا قارب الموت الأخير من عكار وطرابلس ومخيماتها ولاجئيها. هم هاربون من نظام العبودية الذي تضيق جدرانه بهم أكثر فأكثر، فيلفظ بعضهم أحياناً الى البحر. بعض أهالي الضحايا ممن قصدوا طرطوس لم يتعرفوا الى الجثث وقد تآكلت معالمها وسط المياه المالحة، وكأنه قيض لهم أن ينتهوا مجهولين، مخفيين في بلد أضحى مطحنة للجثث والأحلام داخل قالب حلوى كبير يأكله سياسيون واعلاميون ورجال اعمال ومصرفيون وهم يحتفلون ويقهقون عالياً كي لا يعلو فوق صوتهم صوت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها