الأحد 2022/11/06

آخر تحديث: 15:30 (بيروت)

إدلب:الثقب الأسود..ل"الاستقرار"

الأحد 2022/11/06
إدلب:الثقب الأسود..ل"الاستقرار"
increase حجم الخط decrease

تلوح في الأفق بوادر انتهاء واحدة من أسوأ أزمات المحروقات في إدلب. وهي مناسبة جيدة للإضاءة على الثمن الذي يدفعه سكان هذا "الكانتون"، مقابل حالة "الاستقرار" التي يعيشونها، مقارنةً بنظرائهم في ريف حلب الشمالي، الذين يعانون من فوضى الفصائل وفلتانها الأمني. إذ أن هناك جانباً "أسود" لإدلب المستقرة تلك، التي تحكمها قوة واحدة، منضبطة ومتماسكة داخلياً.


لكن، لنقرّ بدايةً أن الإعلام المقرّب من هيئة "تحرير الشام" لم يتجنَّ على "الفيلق الثالث"، حينما اتهمه بالمسؤولية عن جانبٍ من أزمة المحروقات الأخيرة. كما لم تفترِ القراءات التي تتحدث عن دور تركيّ في تفاقم تلك الأزمة. إلا أن الخطاب الإعلامي الموالي للهيئة، في هذا الصدد، يستنسخ نظيره الموالي للنظام، وإن بصورة أقل حرفيّة. إذ يلقي بعبء الأزمات الاقتصادية والمعيشية الداخلية، بالمجمل، على العوامل الخارجية، ويتعامى عن عوامل داخلية تجعل الأثر الخارجي مضاعفاً. وبالمقارنة بين الخطابين، يقرّ خطاب النظام ببعض العوامل الداخلية المسببة للأزمات، من دون أن يعترف بمسؤولية المتنفذين عن أكثر تلك العوامل تأثيراً، وهو الاحتكار. بينما الخطاب الموالي للهيئة يرفض الإقرار بوجود احتكار من أساسه. رغم أن "الاحتكار" هو ركيزة الاقتصاد السياسي القائم في إدلب. فهو المصدر الرئيس لتمويل "تحرير الشام"، والناظم لتوازنات مراكز القوى، داخلها.


وبالعودة إلى الانجلاء المرتقب لأزمة المحروقات، تبدو الأسباب الخارجية في طريقها للانفراج. فها هو "الفيلق الثالث" يحاول التخلص من العبء الأخلاقي والضرر الشعبي الناجم عنه، جراء منع صهاريج المحروقات من الوصول إلى إدلب. إذ أعلنت شركة "إمداد" التابعة له، عن استعدادها التام لإيصال المازوت حتى حدود إدلب. فيما ترفع تركيا الحظر عن تمرير البنزين والغاز إلى المنطقة. فحكومة "الإنقاذ" أكدت أن توزيع البنزين والغاز سيبدأ الثلاثاء القادم، بعد وصول باخرة محملة بالمادتين إلى ميناء مرسين التركي. الحكومة ذاتها، كانت قد أرجعت أسباب الأزمة إلى تأخر استلام المواد بسبب تبديل البواخر من الشركة المورِّدة. لكن التوقف المفاجئ لشركة "وتد" للبترول، بعد أيام فقط من توقف معارك الشمال السوري بين "تحرير الشام" و"الفيلق الثالث"، يؤكد أن أزمة المحروقات الأخيرة لا ترجع لأسباب "فنية" ذات صلة بتبديل باخرات أو سواه.


فـ "وتد" للبترول، لطالما كانت على مدار السنوات الأربع الأخيرة، عنواناً لاحتكار هيئة "تحرير الشام" لسوق المحروقات في إدلب. وأصبح من الملح التخلص منها، تجنباً لعقوبات محتملة ضد كيانات تتبع للهيئة، بتهمة "الإرهاب"، بعد أن أشْهَر الأمريكيون هذا "السيف"، للضغط على أنقرة كي توقف تمدد الهيئة إلى شمالي حلب.


وبينما يمكن القول، إن اتهام هيئة "تحرير الشام" بافتعال أزمة المحروقات الأخيرة، مبالغ فيه، لا يمكن في الوقت نفسه، إنكار دور "الاحتكار" الذي تمارسه الهيئة، في جعل تلك الأزمة -وأزمات معيشية أخرى سابقة- أكثر إيلاماً لسكان إدلب. وفيما يروّج أنصار الهيئة لمزايا الاستقرار الأمني والإداري في إدلب، مقارنةً بالفوضى وانتشار المخدرات والفلتان الأمني في ريف حلب، يغيب الإقرار بالفروق المعيشية في هذه المقارنات. إذ تُباع مختلف أنواع السلع والبضائع في ريف حلب، بأسعار أقل من نظيرتها في إدلب، وفي مقدمتها، المحروقات. ويرجع ذلك إلى عدم وجود سيطرة لقوة "حكومية" على النشاط الاقتصادي في ريف حلب، مما يخلق هامشاً كبيراً للمنافسة بين التجار. أما في إدلب، فتغيب هذه المنافسة، إذ تحكم "الإنقاذ" سيطرتها على كل جوانب الاقتصاد، بذريعة التنظيم والإدارة، فيما النتيجة، أسعار أعلى، وهامش أقل للنشاط الاقتصادي الحرّ، واحتكار شخصيات وشركات محددة توريد كل أنواع السلع وتوزيعها. وهي المنهجية ذاتها التي يتبعها نظام الأسد. وكما أن هناك "يسار إبراهيم"، في القصر الجمهوري بدمشق، ذاك الذي يدير كل خيوط اللعبة الاقتصادية في مناطق سيطرة النظام، ويمتلك أسهماً في عددٍ لامتناهٍ من الشركات الناشطة هناك، نجد على ضفة "تحرير الشام"، أبو عبد الرحمن زربة (مصطفى قديد) وأبو أحمد زكور (جهاد عيسى الشيخ)، والمغيرة البنشي، المقرّبين من أبو محمد الجولاني، والذين يديرون الملفات الاقتصادية، ويحصدون في الوقت نفسه، ثروات طائلة، فيما يعملون دون كلل على حصر كل شيء له علاقة بالاقتصاد، في قبضة الهيئة والمحسوبين عليها. وكما يتغلغل الفساد في أوساط مسؤولي النظام، الذين يتمتعون بنفوذ مطلق في حياة السوريين الاقتصادية والمعيشية، تكشف تسريبات منشقين عن الهيئة من حين لآخر، عن فضائح فساد تطاول رموزاً كبيرة داخل الدائرة الضيقة لقيادتها، من أبرزها، تلك الأسماء السابق ذكرها. 


وقد يجد البعض في ما خلصنا إليه آنفاً، افتراءً على الهيئة، أو ميلاً لرواية خصومها في ريف حلب. وبهذا الصدد، نذكّر بالتشدد الكبير من جانب الهيئة ضد عمليات تهريب السلع من ريف حلب إلى إدلب، وبالذات المحروقات، والتي ينشط فيها أطفال ونساء فقراء، يخاطرون بأرواحهم للحصول على مبالغ تافهة لقاء كل عملية تهريب، جراء أوضاعهم المعيشية المزرية. وفي حادثة معروفة، قتل عناصر الهيئة، امرأة نازحة وأم لأربعة أطفال أيتام، مطلع العام الجاري، خلال محاولتها لتهريب بضعة ليترات من البنزين إلى إدلب. ولطالما كان التشدد الكبير الذي تظهره الهيئة على حواجزها مع مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، مثيراً للجدل. فإن كانت الهيئة تعجز عن توفير سلعٍ بأسعار أرخص لسكان المنطقة، لماذا لا تتركهم يتدبرون أمورهم بأية طريقة، ومنها جلب سلع أرخص من ريف حلب؟! الجواب يظهر في التضييق الكبير على القطاع الخاص في إدلب، بحيث باتت كل قطاعات الاقتصاد تقريباً، محتكرة لصالح متنفذين داخل الهيئة. 


هذا الواقع يدركه سكان إدلب جيداً. لذا، لم نجد تفاعلاً إيجابياً حيال إعلان حكومة "الإنقاذ" السماح لست شركات بالعمل في مجال استيراد وتوزيع المحروقات، وذلك بعد فترة وجيزة من إعلان "وتد" للبترول، عن توقفها المفاجئ. فـ "وتد" سيئة الصيت، كانت في منافسة "وهمية"، مع شركتين، هما "كاف" و"الشهباء"، على مدار السنتين السابقتين، من دون أن تنعكس تلك "المنافسة" انخفاضاً في أسعار المحروقات بالمنطقة. والآن، باتت الشركات الثلاث، سِتاً. لكن لا أحد في إدلب، يعتقد أن الممسكين الحقيقيين بقطاع المحروقات هناك، قد تغيّروا فعلاً.



increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها